كتاب " الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله " ، تأليف د. يوسف نصر الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الحرب النفسية - قراءات في إستراتيجيات حزب الله
فما هي هذه الحرب النفسية؟
تعريفها
إنّ تعريف الحرب النفسية (Psychological Warfare)، ومقاربتها مقاربة جادّة ووازنة، هو أمر شائك، بالغ الصعوبة والتعقيد، حيث بالمقدور أن نقع على تمثل ذلك وترجماته في انعدام تبلور فهم جامع مانع لها، يمكن الاستناد إليه، والاتكاء عليه، لبناء تصوّر علمي حولها، لا تعوزه الإحاطة، ولا تنقصه الحجج. والحال هذه، تعدّدت الآراء، وتنوعت المقاربات، وتباينت وتفاوتت الأفهام، واختلفت زوايا النظر: فثمّة من رأى إليها «الحرب التي يستخدمون فيها الدعاية من أجل التأثير على أشخاص بين أوساط العدو». وأراد بالتأثير هنا تقويض ثقة هؤلاء الأشخاص– المستهدفين بالنصر(16). وثمّة من اعتبرها «عمليات تستخدم فيها وسائل الإقناع على نحو غير عنفي، لتحقيق أهداف الحرب العسكرية». ما يجعلها مجرد أداة إضافية لتحقيق مقاصد الحرب وأهدافها. وثمّة من استخدمها كمصطلح لوصف «العمليات الدعائية» التي تهدف إلى تحقيق الغايات المطلوبة عسكرياً في زمن الحرب. وثمّة من وجد فيها «عملية منظمة شاملة، يستخدم فيها من الأدوات والوسائل ما يؤثر على عقول ونفوس واتجاهات الخصم»، بهدف كيّ وعيه(17)، وتحطيم إرادته وإخضاعه، أو بهدف تغيير هذه الإرادة وإبدالها بأخرى، بما يؤدّي في نهاية المطاف إلى سلوكيات تتفق مع أهداف ومصالح منظم العملية.
وثمّة ـ أخيراً وليس آخراً ـ من قال فيها أنّها نوع من النشاط النفسي الحربي يمارسه كلّ طرف من الأطراف ضد عدوه لتحقيق أجندة أهدافه وسياساته، ما يجعلها مكوّناً أصيلاً من مكوّنات الحرب الشاملة، وعاملاً من عوامل الإخفاق أو النجاح فيها، من حيث أنّها تمارس قبل الحرب، وفي أثنائها، وتستمرّ معها بلا توقف، وقد لا تنتهي بانتهائها(18). وهي تستخدم في سبيل ذلك الدعاية وسواها من العمليات النفسية، بالتساوق والتزامن مع التدابير والإجراءات العسكرية والاقتصادية والسياسية الهادفة إلى إخضاع العدو، وتثبيط معنوياته، وشلّ إرادة القتال والمقاومة لديه، ودفعه إلى التسليم والاستسلام.
وقد حاول بول لينبارجر في كتابه القيّم «الحرب النفسية»(19)، الأخذ بكلّ هذه الإلماعات المفاهيمية، وتدوير زوايا النظر المختلفة، والإضاءة على مجمل مساحات اشتغال الحرب النفسية؛ حيث حدّد هذا النوع من الحروب بأنّه «استخدام الدعاية ضد العدو مع إجراءات عملية أخرى ذات طبيعة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية»(20)، أو سوى ذلك من إجراءات ترى إليها الدعاية شرطاً لازماً وعضوياً لتحققها. كما إنّه– وهذا ما يزيد من فعاليته وتأثيره وسطوته، ويمنحه قيمة علمية مضافة– تطبيق «لبعض أجزاء علم النفس لمعاونة المجهودات» التي تبذل في المجالات المختلفة. وقد أراد لينبارجر من الدعاية- كي لا يبقى التحديد على عواهنه- ذلك الاستخدام الفاعل والمخطط «لأي شكل من أشكال الإعلام بقصد التأثير على عقول، أو عواطف مجموعة معادية، أو محايدة، أو صديقة»، لغرض تحقيق هدف إستراتيجي أو تكتيكي معين(21).
وعلى خطى لينبارجر مشى حامد ربيع، فوجد الحرب النفسية نوعاً «من القتال لا يتجه إلا إلى العدو». وهي بذلك على خلاف الدعاية التي تتعدّد فيها الوجهات. كما وجدها فناً حربياً «لا يسعى إلا إلى القضاء على إيمان المستقبِل بذاته، وبثقته بنفسه». وهي بذلك تتوسّل، لا الإقناع والاقتناع، وإنّما تحطيم الإرادة الفردية والجماعية.
وأدلى العالم الأميركي شفارتز بدلوه في مقاربة موضوعة الحرب النفسية، فأشار في مطالعة قيّمة إلى أنّها: «استخدام الصنوف المختلفة للحجج الحقيقية والمزورة»، التي من شأنها أن تتأدّى إلى إضعاف وتحطيم وقتل الروح المعنوية لجمهور العدو وجيشه، كما تخريب وتشويه سمعة قياداته، ونزع الثقة بإمكاناتهم وقدراتهم، والإضرار بمصالحهم. ما يعني في نهاية المطاف «الضغط والتأثير على الرأي الاجتماعي عامة، وآراء الناس المستقلين خاصة، لتحقيق هذه الأهداف أو تلك».
والحرب النفسية من منظور الرؤية الأكاديمية المتخصصة؛ هي «الاستخدام المدبر لفعاليات معينة معدّة للتأثير على آراء وسلوك مجموعة من البشر بهدف تغيير نهج تفكيرهم». وهي تتوسّل- في ما تتقصّده بمعناها الشامل والواسع- مفاهيم علم النفس واصطلاحاته، كما استعمال أدواته وميادينه لغرض تحقيق الهدف المنشود بأساليب الدعاية، والشائعة، والمقاطعة الاقتصادية، والمناورة السياسية... وتعدّ بحق أقل الأسلحة وأبخسها كلفة إذا ما أجيد توظيفها وتثميرها، مع لحاظ أنّ استعمالها واستخدامها لا يقتصر على أوقات النزاعات والحروب فحسب(22)، بوصفها عملية دائمة ومستمرة. فضلاً عن أنّ تلمّس نتائجها غير متاح وغير ممكن، إلا بعد مرور مساحة زمنية فارقة- قد تحسب بالأشهر أو ربما بالسنين- على انطلاقتها(23).
أمّا الحرب النفسية من وجهة نظر خبراء الإعلام والدعاية؛ فإنّها «استخدام مخطط من جانب دولة، أو من جانب مجموعة من الدول، للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية الموجّهة، إلى جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة، للتأثير على آرائها وعواطفها ومواقفها وسلوكها». ما يجعلها ـ وفق هذه الرؤية - أداة صالحة، هادفة وفاعلة، لتحقيق مآرب وسياسات ونوايا وأهداف الجهة، أو الدولة، أو الجهات والدول الراعية لها، والمطلقة لشراراتها.
قصارى القول: إنّ الحرب النفسية هي حرب ذات أبعاد وحمولات ودلالات وأغراض متعدّدة؛ هي حرب ناعمة(24) قوامها برمجة الوعي، وهي حرب أفكار تستبطن الاستحواذ على العقول والألباب، كما تستبطن استلاب الإرادات والعزائم والذاكرة والمخيال(25). وهي حرب إيديولوجية ـ عقائدية ـ فكرية. وهي حرب المساس بالمرجعيات والبداهات والقيم الحاكمة. وهي أيضاً حرب باردة، وحرب الدعاية والإعلان، وحرب أعصاب، وحرب سياسة، وحرب الكلمات والشائعات. وهي حرب بناء الاتجاهات، وصناعة المواقف، وتكوين التصورات، وتغيير السلوك... وهي أخيراً حرب إخراج الإنسان من ذاتيته، ومن نفسه، ومن عفويته، ومن قيمه؛ ليكون صنيعة أخرى: هجينة ومشوّهة.
أهمية الحرب النفسية
تحظى الحرب النفسية- لدى الجيوش والقادة والحكومات من المستوى السياسي– بأهمية بالغة(26)، وبقدر من الاهتمام والعناية والرعاية، حيث توظف في سبيلها كلّ الإمكانات والمقدرات والموارد، بوصفها أخطر أسلحة الحرب فتكاً(27)، وأشدّها تأثيراً، وأكثرها إضراراً، وأمضاها، وأضمنها، وأقلها كلفة؛ تثير الفتن والقلاقل والصراعات في جبهة العدو الداخلية. تشقّ وحدة الصفوف لدى الخصوم والأعداء، وتشتت شملهم. تستهدف تمزيق وتحطيم وقتل الروح المعنوية، كما كسر إرادة الصمود، ودفع العدو إلى الاستسلام، بعد أن تكبح وعيه واندفاعته، وتعمل على تعريته من قواه الرمزية الفاعلة، وتجعله لاإرادياً يتقهقر مخلفاً وراءه الخسائر الجسيمة (28).
والحال هذه، تنبّه الخبراء والباحثون وذوو الاختصاص والمعرفة في شؤون الحرب وشجونها إلى خطورة الحرب النفسية، وتسالموا على أنّها أقوى أسلحة الصراع قدرة على إلحاق الهزيمة بالأعداء، كما أشدّها أثراً في جلب وتحقيق النصر بسرعة، وبأقلّ الخسائر والأكلاف(29): فإذا كان تفعيل الآلة العسكرية من شأنه أن يتأدّى إلى تدمير مادي للقوات، وللعتاد، وللبنى التحتية... وإذا كانت الحروب الاقتصادية تسفر عن حرمان العدو من المواد الأولية والحيوية، وتعطل أو تبطئ دورة وعجلة الحياة لديه، وتفضي بالتالي إلى شلل وعقم يدبّ في أوصاله ومَقاتله؛ فإنّ بمقدور الحرب النفسية ما هو أخطر وأدهى: إنّها وفق ما يقول بول لينبارجر«تحدث شرخاً عميقاً في خصال الشخصية، ومظاهر السلوك، وفي طبيعة الأداء، والآراء، والمعتقدات، والقيم المعنوية والروحية للفرد». وتتوسّل في سبيل ذلك أساليب خبيثة تصيب الإنسان في إنسانيته، وفي روحه، ومعنوياته، وإرادته، ووعيه، وعقله، وقلبه، وتفكيره، وعواطفه...، وتمنحه شعوراً قاتلاً بالدونية والتصاغر والعجز والإحباط والخيبة(30). ما يقلل من قابلياته على التحسّس بمسؤولياته الوطنية والأخلاقية، ويقعده عن الحراك، وعن القيام بما يتوجب عليه، ويقوده ـ في نهاية المطاف ـ إلى الهزيمة الكلية، وإلى أبشع أنواع الاستسلام والخضوع والخنوع والاستعباد والإذلال.
وإذا شئنا الاستدلال على خطورة الحرب النفسية، وعلى مبلغ فعاليتها وتأثيرها وسطوتها؛ فلنا في أقوال بعض قادتها وقادة الحروب الكونية شواهد وبراهين قاطعة:
قال ونستون تشرشل(31) في معرض توصيفه لخطورة الحرب النفسية: «كثيراً ما غيّرت الحرب النفسية وجه التاريخ».
وقال جوزف ستالين(32) عن الدعاية، بوصفها ركناً ركيناً من أركان الحرب النفسية: «إنّ للدعاية الأهمية القصوى في الانتصار النهائي» في الحروب. وكان أدولف هتلر، قد قارب الأمر من زاوية أخرى، حين أشار إلى «أنّ الرأي العام يعتمد على معرفة بالأشخاص؛ فالشخص يستسلم للدعاية دون أن يشعر».
وفي سياق متصل، اعتبر القائد الميداني الألماني أروين روميل(33) أنّ: «القائد الناجح، هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم». أما أدميرال البحرية الأميركية جيمس بلدوين؛ فأشار إلى دهاء الحرب النفسية بقوله: «إنّنا غالباً ما نعرف أنّ الحرب تكون باستخدام الوسائط العسكرية(...) لكن هنالك وسائط تبدو أكثر مكراً، هي الحرب النفسية التي تستخدم الصور والأفكار والشعارات والدعايات والتقنيات الإعلامية...» .
أساليب الحرب النفسية
تتوسّل الحرب النفسية لتحقيق مآربها ومقاصدها وأغراضها، أساليب وصيغاً مختلفة ومتنوعة؛ أبرزها: