أنت هنا

قراءة كتاب رجل من الشر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رجل من الشر

رجل من الشر

كتاب " رجل من الشر " ، تأليف إبراهيم الشامي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

(3)

انتهيتُ من عملي قرابة المساء، ثم عدت إلى الفندق فوجدت يوسف يتحدث إلى إحدى الفتيات في لوبي الفندق وهما يتبادلان الابتسامات وربما المواعيد. قطعت حديثهما ورحّب يوسف بي، لم تُطل تلك الفتاة الجلوس استأذنت وانصرفت.

اقترح يوسف أن نقصد مقهى شعبياً يمتدحه الناس، راقتني الفكرة فبدلت ملابسي ونزلتُ على عجل.

كان مكاناً جميلاً بسيطاً يعجّ بالناس من أرفع المقامات إلى ماسح الأحذية، والأصوات مرتفعة ومتداخلة - لا أعرف كيف يميزها النُّدُل - ألفت المكان واخترنا من القائمة صنفاً ذا لون وطعم في مكان أبيض وأسود كالأفلام القديمة، لكن المشكلة كانت تكمن في ساقيّ أين أواريهما تحت الطاولة حيث لا يتسع المكان وهما واحدة تخرج من هنا وأخرى من هناك، فيرتطم بهما الرائح والقادم مع تقديم الاعتذار ويوسف يتمايل ضحكاً على مأساتي.

سألني يوسف بامتهان:

- هل كنت طويلاً منذ الصغر؟

كان جوابي ما رددته مراراً:

- منذ طفولتي وأنا ألقب بـ "الطويل" بدءاً من بيتنا ومروراً بشارعنا وانتهاءً بالمدرسة، حتى أنّ صديقات أمي لم يكنّ يقبلنني خوفاً أن أكون قد تجاوزت سنّ التقبيل.

مازحته إبان قهقهاته وضجيج المكان:

- أكنت أنت طويلاً أم قصيراً أم أنك لم تعد تذكر ذلك؟ تلك الطفولة لا يذكرها إلا من عانى مرارتها.

اختفت ابتسامته وشحبت ملامحه ونظر إليّ نظرة لم ألمسها في عين قط، ثم أراح قدمه التي كانت تعلو الأخرى:

- أنا، يا صديقي الجديد، نشأت في قرية صغيرة لأبوين لا يحملان شيئاً إلا الجهل لا يستطيعان قراءةً أو كتابة، جلّ همهما أن يأكلا ويشربا ويناما ليلاً ليصحوَا في اليوم التالي، ثم ليعاودا ما فعلاه بالأمس.

ثم تابع قائلاً بنبرة شجن:

- حُرمت من كل رعاية صحية غير ما سمعته أمي من أمها وما توارثته الأجيال، وحين كانت تعجز أمي عن الحلول كانت تذهب بي إلى عجوز شمطاء مثلما فعلت وأنا طفل عندما حلّ ألم في بطني، فاستعانت تلك الشمطاء بالخرافة على ألمي وعالجتني بلسعة من نار كي أشفى، فزال ألم بطني لأصبح مشلولاً - هذا ما قالته لي أمي.

ابتسم وتابع:

- بقيت مشلولاً حتى بلغتُ السنة السادسة وأنا لا أتحرك إلا حبواً. كان جارنا ميسوراً مشفقاً عليّ، فاقترح على أبي أن يُدخلني المستشفى لإجراء عملية لي تكون نفقتها ديناً على أبي يستردّه كأقساط شهرية، لكن أبي رفض بشدة وبدأ يضرب أمي لأنها السبب في إنجابي وكأنه لم يكن هو هناك تلك الليلة!

تدخّل أهل القرية ليخرجوا حكماً يستطيعون من خلاله مساعدتي، واتفقوا أن أعمل خادماً لدى جارنا في مزرعته إذا استطعت المشي على أن يكون كفيلاً لي، فوافق مكرهاً بضغط من أهل القرية.

يا لحقارة أبي!

سافرت بعد ذلك إلى المدينة وقد تكللت العملية بالنجاح واستطعت أن أقف على قدميّ ثم أمشي. هذا ما رواه لي أمي وأهل القرية، لكنني لم أعد أتذكر قط كل تلك اللحظات بعد أن صقل الألم ذاكرتي.

كل ما أذكره أنني كنت أذهب إلى المزرعة فجراً لجمع الخضار، وأنني كنت أخاف الكلب الكبير الذي يحرسها، فأمسك الحجر بيدي والعرق يتصبب منها خشية أن يهاجمني الكلب ثم أنفجر باكياً عند سماع نباحه الذي لم أعرف أنه لحن الشفقة إلا بعدما كبرت. كما أتذكر كيف كنت أكفكف أدمعي وأرمي الحجر من يدي إذا اقترب صاحب المزرعة كي أبدو أمامه أنني لا أخاف أبداً.

تعلّمت قطف الخضار منذ صغري بدلاً من قطف الزهور، وتعلّمت كيف أوضّبها في صناديق مخصّصة وأحمل ما أستطيع منها إلى المركبة، وأجلس معها في الهواء الطلق الذي استمد نضارة وجه طفولتي وبراءته إلى السوق. وأسرع بعد ذلك إلى المدرسة متأخراً كل يوم، وهناك يبدأ مسلسل التعنيف من المدير أولاً، ثم المرشد وأخيراً مدرس الفصل ريثما ينتهي يوم شاق من الدراسة للعودة إلى السوق ثانية. وفي المساء أعود إلى بيت تغمره الكآبة فأدخل على أمي التي تحتضنني وتقبلني باكية من تصرفات أبي معها وأسدّ رمق جوعي بدموعها ودمائها التي سقطت منها من جراء الضرب.

قطع حديثنا وصول الطلب إلى طاولتنا بعد أن نسيت أنني ما زلت في المقهى.

كان متميزاً في إعداد الشاي والقهوة إذ يضيف إليهما نكهته الخاصة التي يزعم أنها من اكتشافاته، مثلما يضيف إليهما يوسف نكهة المرارة من ماضٍ ولّى وخلَّف وراءه ذكريات لا تنسى.

تابع يوسف:

- طُردت من المدرسة لتأخري كثيراً في الصباح وأُبلغت بأن لا رغبة بعدُ في استمراري.

هنا أحسست أنني سأخسر أصدقائي جميعهم وكل ما تعلمته وأهمّ شيء أنني سأخسر مكاناً ألعب فيه كرة القدم.

أخبرت أبي وصاحب المزرعة، لم يعيراني اهتماماً، فحاولت جاهداً إقناعهما والدموع تنهمر مني ولكنني لم أستطع.

قصدت المدير وأستاذي وحكيت لهما قصتي كما استجديتُ كل المدرسة. كنت أنظر إلى ملعب المدرسة فتزداد دموعي انهماراً وكأنني أودّع أجمل شيء في حياتي، حتى رقّت أخيراً قلوبهم لي واستجيبت دعواتي بعد استحداث جدول في فصل الشتاء يسمح لي بالتأخر قليلاً دون أن يضيع كثير من الدروس عليّ في الموادّ الأساسية.

انتهت مرحلتي الابتدائية بأعجوبة، وتُوفّي بعدها أبي تاركاً إياي وحيداً أتجرّع ألم الحياة وأتقيأه.

رحت أنظر إلى يوسف وهو يذوب كالشمع في النار، ثم أمسك كوب الشاي بكلتا يديه محدّقاً إليّ من خلالهما، وبعد أن رشف رشفة منه ترك الطاولة ورحل عن المكان وعيناي تراقبانه. ساقته قدماه إلى حيث لا أعلم وكأنه لم يأبه لوجودي، بينما ما زال المكان يضجّ بالأصوات التي لا أميزها، لكن قرع الأكواب في أيدي النُّدُل كان يخبرني بموعد الرحيل.

رجعت إلى الفندق وتمدّدت على أريكتي وعيناي متسمرتان في السقف. وكل ما أذكره من عيني يوسف ذانك الحقد والكره اللذان أشعراني بأني أحمل كرهاً في داخلي لا آبه له وكأنه أصبح طبعاً لا أتذمر منه.

نسيت متعة الشاي وشدّة الضجيج وبساطة المقهى.

الصفحات