كتاب " سنوات النار - أبطال من هذا الشعب " ، تأليف أحمد الزبيدي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب سنوات النار - أبطال من هذا الشعب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
سنوات النار - أبطال من هذا الشعب
(ج)
أنا وصديقي سامر لم يرق لنا مجتمع العمرانية، حيث النفاق والأقاويل والحسد والأنانية، كما أننا اكتفينا بصداقتنا وتفوقنا الدراسي، ولم نرتبط بعلاقات بفتيات العمرانية؛ كنا في بداية مراهقتنا نحتفي بـ«رابطة صداقتنا»، ونُسرِّي عن نفسينا بالتجوال في طرقات العمرانية وأسواقها، وأحياناً في ممرَّات المقبرة الضيقة، حيث نشم رائحة الرَّياحين الزَّكيَّة التي يزرعها أهالي الموتى على قبور موتاهم.
غالباً ما كنا نشاهدها هي وإبريق الماء تأتي إلى القبر تروي رياحينه، لم تكن تحفل بنا، ولم نكن نعيرها اهتماماً، غير أن صديقي سامر أشار مرة وقد تغيَّرتْ نبراتُ صوته:
- إنها مثيرة... كما أنها لغز كجدتنا أم السّعد.
لم أعلق بشيء، بيد أن نبرات صوته أثارت عاصفة من الشهوات الكامنة في عقلي، وعصفت بالقوى الساكنة أيَّما عصف.
أصبحت وسامر أكثر ميلاً للتجوال في دروب المقبرة، بل أضحت المقبرة مكاننا الأثير، كانت تأتي ساعة الغروب وتقعد في الأيام المقمرة إلى ما شاء الله، لا تغادر المقبرة إلا بعد أن نذهب، كنا ندور حولها فنراها تُرسِل النظر إلى بعيد. وفي تلك الليلة المقمرة اقتربنا منها كثيراً حيث رنت نحوي ودعتني:
- أنت..
- أنا؟.
- اتبعني.
دخلت المرأة القُبَّة المجاورة للمسجد، حيث ضريح ولي «الخرابات» الأبدي، كما يقال هنا في العمرانية، تبعتها، ودخلت حوش القبة في أثرها، جلستْ والشَّبق في عينيها يتلظَّى ويتشظَّى؛ أشارت عليَّ بالجلوس الى جانبها، وتمدَّدت وقد وضعتْ رأسها على فخذي اليسرى، وأزاحتِ النِّقاب عن صدرها البَضِّ، وسحبتْ يدي اليمنى فوق نهدها الأيسر فضغطته، وشعرتُ بدبيب خدر يجتاحني ووجيب قلبي يزداد خفقاناً، فأخذتني النشوة وارتعشتُ واضطربتُ في وهج اللحظة التي غيَّبتني عن المكان والزمان. تراءت لي جدتي «أم السّعد» وهي واقفة عند باب القبة، وقد اتَّزرتْ بأحزمة الرَّصاص ويدُها على الزناد. تأوَّهتْ فتاتي وهي في قمَّة نشوتها وذروة شهوتها، وأنَّتْ وبكتْ وأطلقتْ أصواتاً متقطِّعة، أتبعتها بصرخة تماهيتُ فيها، ولم أعد أدري بما حولي. وحين خمدت الجذوة بيننا، وقبل أن تلوذ هي بالصمت، قالت:
- هذه الليلة مقمرة.
* * *
أنا وسامر لم ننقطع عن التجوال في المقبرة، بيد أن سيِّدة قبة المسجد تلاشت؛ لم يقل أحدنا للآخر شيئاً، لم نأتِ على ذكرها غير أنها كانت تشغل تفكيرنا وتحتل أحلامنا بجسدها المثير، هي وولي الضريح الذي لم يقل لنا شيئاً هو الآخر، بيد أن ابتسامته الحنون كانت تبارك فعلتنا في تلك الليلة المقمرة.
ومع أننا لم نُجرِ حواراً حول الأمر في رابطة صداقتنا ولا في أثناء تجوالنا في دروب العمرانية، فإن صديقي سامر فاجأني ذات يوم قائلاً:
- لقد رأيت الليلة وَليَّ الضريح.
- أي ضريح؟.
- ضريح قبة المسجد.
- أين؟.
- على سيف البحر.
- وهل كانت معه؟.
- لا.
- لقد ماتت من ألف عام على كل حال.
تبرَّمَ صديقي سامر، وقطعنا الدروب في تلك الليلة، من دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة.
أنهينا (صديقي سامر وأنا) العام الدراسي بتفوق، انتهى العام بهدوء، عدا تلك الملاحظات السِّرِّيَّة التي أبدتها المراجع العليا لرابطة صداقتنا، والتي أشارت إلى روح الخرافة التي نبديها وكأنها حقيقة وليست من تخليقات الخيال التي تجعلنا نكررها كلما دار الحديث عن جدتنا» أم السّعد»، وعن امرأة قبة المسجد وولي الضريح، غير أن كل تلك الملاحظات، وتعاقب الأيام، لم يُنسِيانا طيف سيدة قبة المسجد الذي كان موضوعه يلح علينا كلما دار الحديث عن أمنا، أم شعبنا المبجلة «أم السّعد»، فتهيج بي الذكرى صوب المقبرة مرتع صباي الأثير في الليالي المقمرة.
* * *