أنت هنا

قراءة كتاب من أماسي السمر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من أماسي السمر

من أماسي السمر

كتاب " من أماسي السمر " ، تأليف إميل منذر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

ومرّتِ الأيّامُ وكَبِرْنا. ثم أطلّّتِ الحربُ برأسِها، فنزحْنا معِ النازحينَ إلى بيروتَ، أو بالأحرى إلى لا مكان. بيروتُ ليست لنا. إنها للذينَ اعتادوا الحياةَ الصاخبةَ، أما نحن فلنا قريتُنا المطمئنّةُ الهادئة. لقد كانت القريةُ قلبَ عالمِنا الصغيرِ الذي ينتهي عند مشارفِها، والسفوحِ المحيطةِ بها.

سنواتٌ عشرٌ مريرةٌ عشناها في الغُربة. أجَل لقد كنا مغتربين في وطنِنا، غرباءَ في بلادِنا. الناسُ الذين التقيناهم وعشنا بينهم في المدينةِ لا يشبهون أهلَ ضيعتِنا في شيء. أولئك تجّارٌ وصناعيون يحسبون للغدِ ألفَ حسابٍ لأنْ لا أحدَ منهم يُعينُ أحداً. أما هؤلاءِ ففلاحون متضامنون يطلبون خبزَهم كفافَ يومِهم.

وعندما ألقتِ الحربُ أوزارَها، عُدنا إلى قرانا؛ فوجدناها كئيبةً، يسكنُها الصمتُ والوحشةُ، وهي التي كانت من قبلُ ضاحكةً تضجُّ بالحياة. البيوت التي كانت شامخةً بقرميدِها، زاهيةً بقناطرِها وشُرُفاتِها، سقطَ منها ما سقطَ، وتحوّلَ أكواماً من حجارةٍ يعانقُ بعضُها بعضاً كأنها تكره الفراق. والبساتينُ التي كانت تَرْفُلُ خُضْرَةً ونضارةً، يبست أشجارُها، وهجرتها أطيارُها. والكرْمُ... ما تراه قد أصابه؟ سؤالٌ ظلَّ يُلحُّ عليّ أيّاماً، حتى كان صباحٌ انحدرتُ فيه إلى كرْمِنا فوجدتُه في حالٍ يُرثى لها. أشجارُه التي كانت في ما مضى دائمةَ الخُضْرَةِ، اشتعلت يباساً رؤوسُ أغصانِها، هذه التي كان أبي يضحّي بالكثيرِ من حبّاتِ الزيتونِ العنيدةِ المتشبّثةِ بها، فيتركُه للطيرِ، مخافةَ أن يكسرَ المفراطُ طربوناً من طرابينِها. والحيطانُ العاليةُ سقطتْ أجزاءٌ منها، وتدحرجتْ حجارتُها إلى أواسطِ الجلولِ، فانكشفتْ جذورُ الشجرِ بعدما انهارَ الترابُ الذي كان يحضنُها ويغطّيها.

لو كان البيتُ قد تهدّمَ بفعلِ الحربِ، لما حزنتُ حزني لمرأى كرمِ الزيتونِ على هذه الحال. لقد كان مصدرَ رزقِنا الأوّلَ؛ لذلك قرّرتُ ألّا أُسْلِمَ إلى الموتِ ما كان يؤمّنُ لنا العيشَ، ويبقينا على قيدِ الحياة. وعندما أبديتُ لأبي رغبتي في العملِ على إعادةِ الكرْمِ إلى سالفِ عزِّه، هزَّ رأسَه، ثم قالَ بصوتٍ ينزفُ أسفاً: كيف نحيي العظامَ وهي رميم! ثم أضاف: لقد أدركتْني الشيخوخةُ يا ابني، ولم أعُدْ قادراً على العملِ الشاقِّ، وأنت وأخوك لا خبرةَ لكما، ولا وقتَ لديكما للقيامِ بمثلِ هذه الأعمال. وعندما سألتُه عن الحلِّ، خفضَ رأسَه، ثم قالَ بصوتٍ خرجَ غَصْباً من بينِ شفتيه: جِدَا مَن يشتريه. وعندما نظرتُ إلى أمّي، هزّت رأسَها موافقةً، ثم مسحت دمعةً من عينها. وإذ رفضتُ فكرةَ البيعِ، وأبديتُ تصميماً على إحياءِ الكرْمِ، قالَ أبي: كرْمُ موسى لك، وكرْمُ حَنّةَ لأخيك. إفعلا بهما ما تريدان.

لم يمضِ أسبوعٌ واحدٌ حتى كان بضعةٌ من العمّالِ في الكرْم. هذا يقلِّمُ الأغصانَ اليابسةَ، وذاك يحرثُ الأرضَ على الجرّارِ الآليِّ، وذلك يضعُ أغراساً في الفسحاتِ الواسعةِ بينَ الأشجارِ الكبيرةِ، وآخرون يعمّرون الحيطانَ الخَرِبة. لقد أعدتُ إلى الكرْمِ خَفَقانَ قلبِه وجَرَيانَ الحياةِ في شرايينِه، إلّا أنني أنفقتُ على ذلك مالاً كثيراً، ولم يكنْ المردودُ على قَدْرِ المجهود. ولكنْ ما الهمُّ، فما أردتُه هو أن أسْكَرَ في رؤيةِ الكرْم نَضِراً، ومَن يريدُ أن يسكرَ لا ينبغي أن يَعُدَّ الكؤوس.

وانقضت بعد ذلك سنتان. وأطلَّ خريفُ الثالثةِ، وهو فصلُ الجنى؛ فدعوتُ أولادي لمرافقتي إلى الكرْمِ، ومساعدتي في قطفِ الموسمِ لأن ذَيْنِكَ اللذين كانت لهما الهمّةُ للعملِ، لم تَعُدْ لهما همّةٌ. لقد هرِمَ أبواي، وما عادَ بوِسْعِهما النزولُ إلى الكرْمِ وبذلُ التعبِ فيه. إلّا أنَّ أولادي لم تَرُقْهم الدعوةُ؛ فاختلقوا للتملّصِ منها ألفَ عذرٍ وحجّة.

ـ يا أبي، عليّ أن أُتِمَّ واجباتي المدرسيةَ، لذلك لن أتمكّنَ من الصعودِ برفقتِك إلى القرية. قالَ أصغرُهم، وهو في الثانيةَ عشْرَةَ من عمرِه.

ـ كنا يا بنيَّ أصغرَ منك سنّاً عندما بدأنا ننزلُ إلى الكرْمِ، ونعملُ فيه طيلةَ النهارِ، ثم نعودُ مساءً إلى كتبِنا ودفاترِنا، وكنّا الأوائلَ في صفوفِنا.

ـ الزمنُ تغيّرَ يا أبي. أتريدُنا أن نعيشَ في الضيعةِ، ونمتهنَ الفلاحةَ والزراعة!

ـ لا. لا أريدُكم أن تمتهنوا الفلاحةَ والزراعةَ؛ لكن أريدُكم ألّا تنسلخوا عن القريةِ فتنسوها وتنساكم. ألّا تهملوا أرضَكم من بعدي فتتنكّرَ لكم. باستطاعتِكم أن تحذوا حذوي، وتفعلوا مثلي. ألا ترون أنَّ معظمَ جَهْدي وتعبي تستأثرُ به وظيفتي؟ لكنني أخصّصُ بعضَ الوقتِ للقريةِ وأرزاقِنا فيها لتبقى حيّةً فلا يمتدَّ الخرابُ إليها. حرامٌ يا ابني أن تخرَبَ أرزاقُنا وييبسَ كرْمُنا، هذا الذي عِشنا وتعلّمنا من خيراتِه.

عندئذٍ طأطأ ابني رأسَه فوقَ كتابِه المفتوحِ أمامَه، ولم يقلْ شيئاً، فتركتُه وشأنَه، وتوجهتُ بالسؤالِ إلى ابني الأكبرَ: وأنت، ألا تريدُ أن تتعرّفَ إلى الكرْمِ الذي سيكونُ في أحدِ الأيّامِ لك ولأخيك؟ أجاب: لي ولأخي! لا يا أبي. أعطِه كلَّه لأخي. أنا لا أريدُ حصّةً فيه. نظرتُ إذ ذاك إلى ابنتي وهي أصغرُ الأولادِ، وسألتُها: وأنتِ يا حبيبةَ أبيكِ، أتصعدين معي إلى القريةِ فتتفرّجي على الكرْم؟ ضحكتْ وقالت: الحمدُ للهِ أنّك قسمتَه بين أخويّ.

تطلّعتُ ناحيةَ زوجتي مُحْبَطاً صامتاً. وإذ رأتني أبتسمُ ابتسامةً حزينةً، ضحكتْ عالياً، ثم نهضتْ ودنتْ مني، وأحاطتني بذراعيها، واغرورقتْ بالدمع عيناها، وقالت: لا تحزنْ. سوفَ نصعدُ كلُّنا برفقتِك إلى الكرْمِ غداً.

ـ أصِدْقاً تقولين؟ سألتُها؛ فهزّت رأسَها أنْ أجل. هذه الإشارةُ أعادتِ الفرحَ إلى قلبي، والأملَ إلى نفسي؛ فانفرجتْ أساريري، وخرجتُ أُعِدُّ العُدّةَ إلى يومِ غد.

وكان الغدُ يوماً جميلاً. الشمسُ تستترُ خلفَ الغيومِ البيضِ حيناً، وتُطِلُّ برأسِها أحياناً. والنسيمُ اللطيفُ يلاعبُ أغصانَ الشجرِ. وسيّارتُنا تتمايلُ بنا، وإطاراتُها تقفزُ فوقَ الحجارةِ على تلك الطريقِ الترابيةِ التي تتفرّعُ من الطريقِ العامّةِ تحتَ قريتِنا، وتمتدُّ حتى مشارفِ الكرْم. هذه الطريقُ هي حديثةُ العهد. شقّها المشروعُ الأخضرُ، ولم يُكْمِلْها، لأنَّ الأموالَ التي رُصدتْ لها، ذهبتْ مع الريحِ، كما شاعَ بينَ الأهالي آنذاك، ولا أحدَ يدري أين اختفتْ، وكيفَ اختفت. كلُّ ما عُرفَ أنَّ الطريقَ شُقّت، وتوقّفَ فيها العمل. أما الدربُ التي كنا نسلكُها في ما مضى، فهي تلك الوعرةُ المختصَرةُ التي تصلُ القريةَ بالوادي.

عندَ مشارفِ الكرْمِ ترجّلنا، وحملنا الزادَ والأكياسَ الفارغةَ والمفاريطَ، أو بالأحرى حملتُها أنا. وحملتُ أيضاً قناني المياهِ المختومةَ لأنَّ أولادي ضحكوا عليّ، أجل ضحكوا عليّ، عندما قلتُ لهم صباحاً في البيت أنْ لا داعي لحملِ المياهِ إلى فوقُ لأنَّ النبعَ قريبٌ من الكرْمِ، وبإمكانِنا أن نشربَ منه.

كلُّ ما ساعدني فيه أولادي وزوجتي هناك، هو أنهم فلشوا معي الأكياسَ تحتَ أوّلِ زيتونةٍ، ومشقوا من حولي عليها بضعةَ أغصانٍ صغيرةٍ واطئةٍ، ثم ذهبوا، وانتقوا شجرةً وارفةَ الظلالِ، وفرشوا عند جذعِها الضخمِ حصيراً من القشِّ، وجلسوا عليه، وأداروا جهازَ الراديو، وأخذوا يغنّون مع المغنّي. وبعدَ قليلٍ ناموا على ظهورهم. وكلّما نفذتْ إليهم أشعّةُ الشمسِ من بينِ الأغصانِ، أزاحوا مرقدَهم يَمْنَةً أو يَسْرَةً ليبقوا في الظلّ.

يا أللهُ كيفَ تغيّرَ الزمن! في ما مضى كنا نطرَبُ لسَماعِ "العتابا" و"الميجانا" تصدحُ بها حناجرُ الفلاحينَ بينَ الكروم. وكان ينادي بعضُنا بعضاً بالصوتِ من " قاطع" إلى قاطع. أما اليومَ فها هو الراديو رفيقُ أولادي إلى الكرْمِ يستمعون منه إلى الأغاني الافرنجيةِ. وها هي أجهزةُ الهاتفِ النقّالةُ في أياديهم وإلى خصورِهم يتكلّمون بها من ذلكَ القَفْرِ إلى أيِّ مكانٍ في العالم.

بعدَ قليلٍ نهضَ ابني الأكبرُ. وحملَ البندقية. وذهبَ إلى الصيد. وعادَ بعدَ ساعتين ببضعةِ عصافيرَ صغيرةٍ لا تُسمنُ ولا تغني من جوع. ثم بنى وأخويه موقداً من الحجارةِ أضرموا النارَ فيه. وعندما احمرَّ الجمرُ، صفّتْ زوجتي سياخَ اللحمةِ فوقَه. وفتحوا الزاد. ودعوني إلى تناولِ الطعامِ؛ فأكلتُ معهم من الأطعمةِ ما لم نكن، صغاراً، نعرفُ له اسماً ولا مذاقاً. إلّا أنَّ أولادي استهجنوا مني أنني لَمَمْتُ عن الأرضِ بعضَ حبّاتِ زيتونٍ سودٍ ناضجةٍ، وأكلتُها بقليلٍ من الخبز. أجل. لقد تغيّرَ الزمن.

الصفحات