أنت هنا

قراءة كتاب الزيارة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزيارة

الزيارة

كتاب " الزيارة " ، تأليف نهلة غندور ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

الزيارة

جلست في مقعد السيارة الخلفي وأنا أكتم كل غضب الحرب. لعنة وألف لعنة على هذه الحرب التي لن تنتهي. ليس لشيء محدد. لم تكن القذائف والدمار سبب هذا الغيظ المكتوم. ولم يكن القتلى والخوف هما السبب أيضاً. ألعنه يوم أضطر إلى ملازمة أسرتي. نلتحم بعضنا ببعض كجسد منخورفي مخيمات الأسر. مزيج من النفور والغضب والرهافة. هذه إحدى قذارات الحرب. إجبار قسري على ملازمة الأسرة لأيام وأيام بل لأسابيع وأشهر وسنين حتى أنك تضيق ذرعاً بالجميع. لا تطيق لهم كلمة. ولا تستمع إلى نصيحة. ولا يهمك مراعاة أحد. فيصبح الجميع أعداءك. يريدون خنقك وحجز حريتك وتكبيلك بالأيام. أيام تجر نفسها فتكبرين وما زلت تشعرين أنك طفلة. وعلى حين غفلة ترين أنك لم تراوحي مكانك. العالم كله يدور وأنت متسمرة في بقعة مدماة بخوفك وزهدك ومقتك.

جالسة في هذا المقعد مقطبة الحاجبين لا أنبس بكلمة. يقودنا أبي بلا هوادة. لا يوجد مكان نقصده. ندور وندور في شوارع بيروت بعد طول الهدنة. لقد مرّت أشهر على الحرب الأخيرة مع إسرائيل. وباتت مجازر صبرا وشاتيلا(1) حيّة في وجداننا. لا نتذكرها يومياً ولكنها دائماً هناك في صميم قلبك وفي منبت دماغك.

هذه المجازر التي أحاول جاهدة نسيان حدوثها. لا يعقل أن يقوم إنسان بهذه الفظاعة. أتوق إلى اليوم الذي كنت أرى الجميع بروح طيبة. لا يوجد سبب لأن يكون الإنسان شريراً.ما دام يأكل ويتكلم وينام على فراش مريح. منذ وقوع هذه المجازر وصور القتلى والمذبوحين والمنتفخين لا تفارقني. أن ترى صورة شيء مرعب أمر وأن تعيش هذا الرعب أمر آخر. يعجز دماغي عن تخيل الرعب الذي عاناه هؤلاء الناس عندما دخل عليهم الوحوش. كيف هو هذا الرعب!...... تأتيني لحظات أخاف فيها. عندما يقترب صوت القذائف أو عندما يعلو صياح جمهرة من رجال الشوارع. أخاف ولكني أفكر بطريقة لطرد هذا الخوف. ماذا أفعل؟ أين ألتجىء؟ مع من أتكلم؟ كيف أحتمي؟ ولكن الرعب لم أختبره بعد. هل يوجد حسابات في لحظات الرعب؟ هل هناك تخطيط؟ كيف تواجهي هذه اللحظات؟ كيف واجه هؤلاء الضحايا هذه اللحظات؟ ماذا فعلوا؟ هل صرخوا أم تحجرت حناجرهم؟ هل بكوا أم انتابهم ضحك هستيري؟ هل حاولوا الهروب أم تجمدت مفاصلهم؟ هل عانقوا أطفالهم أم دفعوهم بعيداً عنهم لحمايتهم؟ لا بأس أن تموت، فلا شعور بعد الموت. لكن اللحظات القليلة المتبقية قبل ذلك عندما يكون الأمل بصيصاً يحجب عنك الحقيقة. هل يكون لديك وجدان؟ بل هل يكون لديك وجود؟ وماذا عن أولئك الذين شهدوا معجزة الأمل وظلوا على قيد الحياة؟ هل يتلظون بعذاب الضمير؟ هل كان عقابهم هو الأشد؟

يزداد غضبك لأنك لم تفعلي شيئاً لمنع هذه المصيبة. فأنت هنا تنعمين بالجلوس على مقعد مريح متنسمة هواء هؤلاء الموتى.

سار أبي طويلاً ليذيقنا طعم الهواء. هواء ربيعي. حتى نسمات هذا الهواء كرهتها. كنت أفضل لو ذهب الجميع وتركوني.

وصلنا إلى شارع منزل عمتي. لم نكن ننوي شيئاً؛ رأينا عمي عند مدخل البناية. توقف أبي بجانبه.

ما كادت تقف السيارة حتى أدخل عمي رأسه وعلى وجهه ابتسامة عريضة. قلما كنت ترى إنساناً سعيداً في هذه الأيام. وجوم شديد. تظاهرة من الكرب. ولكن عمي كان سعيداً. حتى سعادة عمي لم تنزعني من حقدي.

ظل عمي ينظر مبتسماً لأبي. لحظات ولم يدر أحد كيف يتصرف. كيف يواجه هذه السعادة.

لعمي كفّان كبيرتان. يستطيع بهما حمل أعباء كثيرة. وهذا اليوم كان حمله ثقيلاً رغم خفته. دخلت يداه الكبيرتان شباك السيارة مروراً بوالدتي واستقرتا أمام وجه أبي.

الصفحات