أنت هنا

قراءة كتاب ذاكرة الأوراق الآثمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ذاكرة الأوراق الآثمة

ذاكرة الأوراق الآثمة

الأوراق الآثمة، ذاكرة ارتمت أحداثها فوق صفحات وطن اسمه لبنان، وتوزعت على بيدر الحياة فيه محاصيل لأرواحٍ التحفت مآسي الحرب وتدثّرت بعناوين القتل والموت واليتم، وغرفت من سواقي الهجرة المالحة دموعاً صاخبة تبكي الأم والأب والوطن.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

كان صوته عبارة عن مصنع من الإيحاءات يتجاوز في رأسماله خميرة السنوات الثلاثين التي تتشدق بها غضون جبهته المَلْساء.. أما ثوبه الأسود بطياته الأرستقراطية، فكان يتدلّى فوق خطواتٍ رصعتها دقات حذائه في الممر الطويل بإيقاع القوة والحزم؛ فالمحامون: شعار النبالة والفروسية. عند هذه الخاطرة. ارتسمت على شفتي زينة ابتسامة ساخرة.
«ميشال العاشق الجبان. كل شيء لديه كان معلباً ضمن استراتيجية معدّة سلفاً ومرصوفاً على لوائح عنوانها: «أقل الأضرار». تذكرت كيف اصطادته بسحرها وجاذبيتها لدى استفسارها إيّاه عن بعض النقاط القانونية، وكيف أنها سرقت بريق عينيه وحبسته داخل قفص إغواءاتها. كانت زينة يومها عبارة عن سنَّور أخّاذ للحسن والرقَّة والجمال إذ كانت في لباسها وفي غنجها ونبرة صوتها آلافاً من الأفخاخ والقنابل العنقودية التي انفجرت بعد أسبوع واحدٍ من اللقاء الأول وبعد أن تبادلا أرقام الهواتف عاشا فترة شبقٍ جنسيٍّ لا حدود له.
كان كالذئب في كل حركاته: مشيته العرجاء من دون مرض أو خلل عضوي، التواءة عنقه، وهدوءه، وكذلك أسلوبه في المرافعة، والتفافه حول وقائع الدعوى بالمراوغة...».
عادت زينة من رحلتها في عالم الماضي. وأخذت قلمها مجدداً وراحت تكتب فوق صفحاتها: «غسّان ليس ذئباً كميشال الذي يهوى ملفات الزواج والطلاق؛ فوجه غسّان يبدو على ملامحه وقار الأسد، وعنفوانه... الجبهة عريضة، الخدود ممتلئة بالعاطفة والكرم وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشفتين المكتنزتين فوق ذقن ضيق الحوض عليه في وسطه دمغةٌ سمراءُ. إنه الملك».
الانزلاق فوق منحدرات الروح جعل زينة تكتب بِنَهَمٍ عن حيثيات الأسبوع الأول. لقد وصفت كل شيء بدقة: «قليل الحركة، متنبّهٌ على الدوام. كانت حواسه عبارة عن رادار ينقل له إحداثيات الأمواج من حوله وكأنها شبكة مترابطة متصلة بغرفة عمليات اسمها الدماغ. يبدو في الظاهر كأنه يتدثر بالسكون، لكنه في الواقع كان عبارة عن شهابٍ تغلي حِمَمُه الملتهبة من الداخل، خصوصاً وأنه لم يكن قد رسم شيئاً منذ أشهر».
اقتصرت اللقاءات الأولى على اكتشاف كهوف الصوت من حوله. وكأنه تلمس تشققات جدرانها للتو، لقد بدأ زمن الابتكار والرسم الداخلي. بالنسبة إلى غسّان. فكان يرتب أشياء الغرفة وأثاثها كما شرحتها له زينة بدقة متناهية: المقاعد على يمين الباب، المكتب في الجهة المقابلة، الطاولة بعيدة قرابة المترين إلى يسار ستائر الغرفة بألوانها البُنّية...
كتبت زينة مسودة التقرير الأسبوعي الذي تنوي تقديمه إلى رئيسة الجمعية بعد يومين فبيّنت فيه وضعية غسّان الجديدة ومدى تجاوبه مع الإرشادات، لا سيما العصا البيضاء ودرجة تقبُّله رفقتها في أغلب الأوقات، وأموراً مهنية أخرى...
«إنه سريع التعلُّم، مُكْرَهٌ أخاك لا بطل. صحيح أن غضب الحالة المأساوية مستمر في نفسه، وأُوارُ حَنَقِه يشتدّ يوماً بعد يوم على حكم القدر عند كل حدث يصطدم به، إلّا أنّ واقعية المسائل الرياضية فرضت نفسها: مسألة حسابية، نتائجها السلبية مقرونة بالأعداد. فالقرار الأول الذي اتخذه في اليوم الثالث من زيارته اليومية إلى الجمعية أن يأتي منفرداً من دون صحبة زوجته كان يمثل الخطوة الأولى في طريقه إلى إعادة ترميم قدرته على مواجهة يوميات الحياة الصعبة».
«البناء. ما أجمل هذا المصطلح!!». لطالما كان ميشال يردّد على مسامعها هذه الكلمة باستمرار.
توقفت زينة عن الكتابة لبرهة سردت بصمتٍ خلالها وقائع تلك الليلة التي عاشت كل لحظة من لحظاتها مع عشيقها ميشال في منزله. لقد مارسا الحب حتى ساعات الصباح الأولى من ليلة الأحد. ثم شرح لها المحامي بعد ذلك وأثناء احتسائهما القهوةمعاً ماهية هذا المصطلح بالتحديد، وأهميته في الوجود.
فـــ «البناء يقابله الهدم، وهذا إما أن يكون تدميراً وإما تآكلاً بمرور الزمن». فالبناء بنظره هو تراكم للنجاح وصولاً إلى الهدف المنشود. وعلى هذا الأساس يبني هو لوائحه ومطالباته القانونية جميعها؛ لأن عمل المحامي هو جمعٌ للنقاط في هندسةٍ عِمادُها المنطق، وصولاً إلى الحكم. وهكذا هو البناء في الحياة. فالعمر تراكم للتجارب. وهندسة البناء هي مفهوم الخطأ والصواب في تفسير منطق الزمن،. وصولاً إلى مرحلة الحِكم. وللذّة بناؤها أيضاً؛ فهو تراكم للمتعة، وتصاعدها يبدأ في هندسة خاصة، اسمها الغريزة وصولاً إلى محطة مرحلية للنشوة والشبع والارتواء.
وهكذا هو غسّان؛ فقد كان يبني خطواته أيضاً على ثقة اسمها العصا، يتحسس بها امتداد اليدين والرجلين. لقد كانت سفيرة المسافات القصيرة بالنسبة إليه، يضعها جانباً كُلّما دخل الغرفة ليستبدل عصاه بيد زينة الدافئة.
«كانت يده تتعرَّق وترتجف كلما أمسكتُ بها وجرّرته إلى الكرسي حيث كان يجلس قبالتي. «أنا مسؤولة عن تنقلاتك» أليس كذلك؟ بينما كان هو يكتفي بالشكر فقط، والخجل يرشح من صوته جداولَ تغذّي احمرار خدّيه بالدفء. وأنا بِدَوْري كنت متيقنة من سوء نيته التي تفتحت أشواكها فوق سور الإرشادات التي يستمع إليها ويتلقفها بِنَهَم.
بدأت عودته إلى مسرح الحياة منذ أن تعلّق سَمْعُه فوق هاوية النغمة الجميلة، التي أتصنّعها له بِدَهَاءٍ أُنثوي باهر. ولا أبالغ إذا ما قلت إنّني عازفة ماهرة على أوتار الإثارة السمعية؛ فــــ«الأُذْنُ تعشق قبل العين أحياناً». وفي حالة الأستاذ غسّان هذه، عليه أن يعشقني بأذنيه فقط. لقد أضحى السمع بالنسبة إليه الباب الأول الذي تخرج منه روحه إلى العالم الخارجي. ومن ثم العصا البيضاء».

الصفحات