الأدب – بشعره ونثره – سيف ذو حدّين. حدٌ يقطع ليحمي ويبني وينمّي... وحدٌ يقطع ليتسلط ويكتم وينمّي كذلك. إنما نماء الأول للنـــّحن المتوحّدة، ونماء الثاني للأنا المتفرّدة. وبكلا الحدّين تتحكم الضرورة.
أنت هنا
قراءة كتاب الأدب والوظيفة في الوطن العربي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الأدب والوظيفة في الوطن العربي
الباب الأول : الأدب والأدباء الـموّظفون
الأدب: ماهيّته وأغراضه
1- ماهيّته:
الأدب لغة(7) هو حسن التناول والظرف، وأصله الدّعاء، ملكة تعصم من قامت به عمّا يشينه. هو استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. بتعبير آخر، الأدب في اللّغة هو حسن الأخلاق وفعل الـمكارم، هو الذي يتأدب به الأديب من الناس. سمّي أدباً لأنه يَأْدِبُ الناس إلى الـمحامد وينهاهم عن الـمقابح. ومن معانيه أدب النفس، وأدب الحديث، وأدب الدرس، وأدب الطريق...
فالأدب - إذن - يشكّل ضرباً من الـممارسة الهادفة. وما تعبير الرسول محمد (صلعم) في حديثه الشريف: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» إلاّ تدليل على ذلك. وقوله: «إنمّا بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق» تبيان للدلالة الاجتماعية - الأخلاقية للأدب وعلاقته العضوية بالحياة. وقد جاءت تفسيرات علماء اللغة العربية لكلمة (أدب) لتؤكد هذا الـمعنى. قال الـمقّري: «أدّبه أدباً: علمه رياضة النفس ومحاسن الأخلاق». وقال أبو زيد الأنصاري: «الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل».
لكن مع تطوّر الحياة واتساع مناحيها الفكرية، اتسع مفهوم لفظة (أدب) واكتسب دلالات لغوّية تشير إلى ازدواجية الـمعنى. فبالإضافة إلى معنى الفعل الأخلاقي حمل معنى العلم الذي يتناول استعمالات اللّغة. فباتخاذ الـمؤدّبين - في العصر الأموي - اتـّسع مفهوم الكلمة، وبات يحمل في مضمونه معنى تثقيفياً إلى جانب الـمعنى الأخلاقي. إذ درج الـمؤدّبون على تعليم تلاميذهم القراءة والكتابة، وسير السلف وأقاصيصهم، والإنساب والأخبار... إلى جانب تعهّدهم بالتربية الصالحة، والأخلاق الحميدة، والسلوك القويم. ومن هنا استعمل الزّجّاج (أدَّب) بمعنى علّم. وأكّد الجواليقي ذلك في معرض حديثه عن إضفاء الدلالة العلمية - اللغوية لفعل الأدب الأخلاقي بقوله: «الأدب في اللغة: حسن الأخلاق وفعل الـمكارم/ وإطلاقه على العلوم العربية مولّد حدث في الإسلام».
ومع ازدياد العلوم والـمعارف - في العصر العبّاسي - شمل مفهوم الأدب كلّ ما من شأنه التهذيب والتثقيف، حتى اكتسبت اللفظة معنى الـمعرفة الشاملة، فأدخلوا في نطاقها: الطب والصيدلة، والكيمياء، والرياضيات، والسحر، والكهانة، والفقه، والشريعة، والـمنطق، والفلسفة والـموسيقى والفن،... وبذلك تحوّل معنى (أدب) من منظومة متعدّدة الأنواع لاستخدام اللغة في الشعر والنثر والنحو والبلاغة... ليصبح عند العرب بمثابة فنّ استخدام اللّغة للتعبير عن الـمضمون العلمي - الاجتماعي بالإضافة إلى البعد الفني البلاغي للغة. الأمر الذي يضيف فن استخدام اللغة أى البعد الوظيفي لعلاقة الأدب بالوجود، إذا ما اعتبرنا أنّ (أدب أيّ أمة هو الـمأثور من بليغ شعرها ونثرها).
وقد جاء ابن خلدون ليقول في مقدمته: «الأدب علم لا موضوع له... الـمقصود منه عند أهل اللّسان ثمرته وهي الإجادة في فنـــّي الـمنظوم والـمنثور على أساليب العرب ومناحيهم... مع ذكر بعضٍ من أيام العرب... وكذلك ذكر الـمهّم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة... ثمّ أنهم إذا أرادوا حدّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف...»(8).
وإن يكن ابن خلدون في مقدمته قد أدرج الأدب في باب العلوم، وقال: «علم الأدب»، إلاّ أنه لـم يجرده من طبيعته الفنية - كما بدا لنا ممّا تقدم - عندما أراد أن يحدّه. ولسنا هنا بوارد مناقشة هذه الـمسألة، إنمّا ما يهمّنا هو مفهوم الأدب من خلال تعريف ابن خلدون به. فالذي نفهمه منه أنّ الأدب هو ما أثر عن العرب من فنـــّي الـمنظوم والـمنثور، وقد ارتكز على قواعد وأصول - أي على علوم - راعاها العربي الأصيل منذ جاهليته، وهي علوم اللّغة والتاريخ.
وبهذا الـمفهوم، لـم يعد الأدب دائرة معارف شاملة. فقد خرج علم الشريعة والفقه من حدّه/ وإن يكن اعتماده على علوم اللّغة كالأدب. وكذلك خرجت علوم كونيّة كثيرة، إذ أنــّها علوم دخيلة لا مدخل لها في كلام العرب إلاّ ما ذهب إليه الـمتأخــّرون.
وما نراه: الأدب متعة ومنفعة على السوّاء. هكذا رآه أرسطو وكثيرون غيره من بعده. هو نقد للحياة وظائفه شاملة / ذاتية واجتماعية وسياسية ودينية.../ يشمل حياة الأديب وتجربته، وحياة الآخرين وتجاربهم، (بل يتناول ما بعد الحياة من تطلّع إلى الكون والـمصير وقوانين الطبيعة ونواميسها)(9). ومن هذا الـمنطلق، الأدب ضرورة حتميّة في الحياة الإنشائية، وظيفته خدمة الـمجتمع الإنساني. ومن هنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي أغراض الأدب ووظائفه؟.