هذه ثلة من مقالات كنت قد نشرت معظمها في صحف أو في مجلات محلية وكتبت بعضها لاحقا وادخرته لهذا المؤلف.
أنت هنا
قراءة كتاب طب وما أشبه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أساس الحجامة الإشفائي لدى الشعوب القديمة
اعتمد الأقدمون طرائق بدائية لعلاج الأمراض تستند إلى فهم خيالي لوظائف الأعضاء يختلف من حضارة لأخرى، كما يختلف تماماً عن فهمنا العلمي الحديث لها. ولقد راح كل شعب مارس الحجامة ينتحل لها وظيفة بحسب تقدير حكمائه، بيد أن الحجامة تقوم عموماً على مبدأ إزالة سبب المرض من الجسم بشفطه مع الدم عبر الجلد. وفي مصر القديمة ثمة برديّة (Eberes Papyrus) كتبت في حدود 1500 ق.م. تقرر أن استخراج الدم بالحجامة الرطبة يزيل المواد الغريبة والمؤذية من الجسم. أما الإغريق فمارسوها على أنها تنظم توازن الأخلاط الأربعة داخل الجسم وهي: خِلط (بكسر الخاء) الدم، وخِلط الصفراء، وخِلط المخاط (البلغم)، وخِلط السوداء. فالحجامة لديهم تزيل الأخلاط الضارة. (9) أما الرافدانيون والهند والفرس فلم نقع على قولهم في وظيفتها.
ما زعموه من أساس لفعل الحجامة في الصين
أما في الشرق الأقصى فلقد اعتقد الصينيون أن في الجسم قنوات تمر منها الطاقة الطبيعية الكونية التي يدعونها كي Qi أو Chi . وبالرغم من دعوتهم إياها طاقة، فإنهاروحية ميتافيزيقية الطابع وليست مادية تجريبية (empirical) بالمعنى الذي نفهمه عن الطاقة اليوم. وما هذا المعتقد إلا نوع من عقيدة بدائية تدعى الحيوية (10) (vitalism animism) ، تزعم وجود الحياة في كل ظاهرة كونية. وهذه الطاقة الروحية الدائرة في الجسم تنسدّ بعض مساربها، بزعمهم، فتحتقن هنا وتشح هناك فيعمدون لتنظيمها وإعادة توازنها إلى تحفيز عدد من النقاط الواقعة على مسار قنواتها بواسطة الإبر الصينية التي يسمونها نسبة إلى هذه الطاقة بـ (chi kung) أي وخزات (كي). ولقد ترجم الأوروبيون وخزات (كي) إلى لفظ ذي معنى مشابه هو (أَكُي بنكجر) (aqui-puncture) الذي تطور إلى: (أكو بنكجر) (acu-puncture) وهو ما نقرأه اليوم.
عجباً!! ما علاقة الحجامة بوخزات كي؟؟ الجواب عن هذا هو أن المحاجم التي ابتكرها الصينيون من قرون الحيوان الفارغة ابتداءً، ثم من قصب البامبو أو الفخار لاحقاً (شكل 3)، قد استخدموها للغرض نفسه، أي لتنظيم الطاقة المحترمة (كي) في قنواتها الجسمية، ويبدو إن استخدامهم المحاجم لهذا الغرض جاء متأخراً عن استخدامها الأول المختص بسحب الخراجات وتفريغها الذي ذكرناه. وكانوا في الأمراض التي يظنون أنها تنشأ من احتقان أو ركود الطاقة يخرجون الدم بالحجامة (blood-letting) ، وهو ما يسمى اليوم الحجامة الرطبة، أما من كان مرضه من نقص الطاقة وحسب فإن إخراج الدم ربما أضرَّ به، في حسبانهم، والحجامة المسماة اليوم جافة هي الأجدى له.
وعدا عن مسألة تنظيم قنوات الطاقة في الجسم، فإن للصينيين مقصداً آخر في الحجامة. فمن مقولاتهم القديمة: "أينما كان احتقانٌ، كان الألم. أزِل الاحتقان يزل الألم"، والحجامة، كما يرون، تحرك الدم وتفتح منافذه وتمنع ركوده مثلما تفتح منافذ الطاقة فتعيد بذلك للجسم طبيعته المعتدلة.
أساسها الإشفائي قُبَيل عصر النبوة وفيه..ورأيُنا في جدواها
أما العرب في الجاهلية فقد اقترنت الحجامة عندهم بخروج الدم (انظر وصف زهير لها في شعره آنفاً). وورد ذكرها بالصفة نفسها في الحديث النبوي الشريف بقوله (صلى الله عليه وسلم): ((.. شَرطة مِحجم...))، فكأن تشريط الجلد بالمشرط وحجم الدم، أي مصّه بعد التشريط، مقترنان، مما ينبئ أن الحجامة عند العرب، جاهلية وإسلاماً، كانت تقترن دائماً بإخراج الدم. وتشير الأحاديث في عصر النبوة إلى أن الحجامة وسيلة لإزالة هيجان الدم وتَبَيُّغِهِ. جاء عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم، فإن الدم يَـتَبَـيَّغ بصاحبه يقتله". وتَـبيَّـغُ الدم هيجانُه وزيادته، والتبَـيغ تصحيف البغي وبمعناه. ولكن ما هو هياج أو تبيغ الدم لديهم؟ وكيف يتنبأ الإنسان بوقوعه فيحتجم كي لا يقتله؟ أم أن الأمر وقائي عام؟؟ لا أدري، فلربما كانت هناك أعراضٌ معينة تعارفوا على أنها من هياج الدم. أمّا ما نفهمه اليوم من تعبير (هياج الدم) في الطب العلمي الحديث فيحتمل أنه تعبير عن حالتين مرضيتين لا غير: الأولى هي زيادة عدد كريات الدم الحمر (polycythemia) ، والثانية زيادة ضغط الدم (arterial hypertension) ، فإن كان الأمر هكذا فإن إشارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الإعجاز الطبي حقاً حقاً، فإزالة قليل من الدم الوريدي في الطب العلمي اليوم، وهو ما كانوا يدعونه بفصد الوريد (venesection) ، ركن ضروري في علاج زيادة كريات الدم الحمر. أما ارتفاع ضغط الدم الشرياني، فلعمري إن إزالة بعض الدم علاج جيد له في زمن لا توجد فيه أدوية خافضة للضغط، بل ضرورة منقذة للحياة أحياناً. ولا مراء أن الحجامة الرطبة تحقق ما يحققه الفصد الوريدي في الحالتين المرضيتين كلتيهما ومن هنا نقر بفائدتها المحدودة في حالتي تبيغ الدم هاتين، أما ما عدا هذا من الأمراض والعلل فليس في الطب العلمي أي دليل على أن إخراج الدم فيها بالحجامة مُجـدٍ أو مفيد.


