كتاب " آثار الوثاق " ، تأليف جليل حسن محمد ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء
أنت هنا
قراءة كتاب آثار الوثاق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2 ـ الحنين والذكرى
الوطن معنى قبل أن يكون شكلاً ترابياً مرسوماً بحدود ومقيداً بأبعاد، ويأتيه هذا المعنى من العاطفة الإنسانية الجياشة التي يحملها المرء تجاهه عبر تأريخ طويل من الذكريات والمواقف والعلاقات والأحداث تترسخ في الوجدان وتتوحد معه ولهذا بين لفظتي الوطن والحنين تقارب شديد وارتباط وثـيق فـقد نص اللغويون على أن حـنين الإبل يعني نزوعها إلى أوطانها وأولادها وكذلك الإنسان([81]).
إن أي فعل قسري يحمل الإنسان على النزوح عن الوطن هو فعل يراد به تهشيم الرابط الوجداني المندغم بواقعه المكاني المتمثل بأرض الوطن وفي ذلك من الإيذاء النفسي ما لا يطاق، ومن هنا قرن القرآن الكريم الخروج أو الإخراج من الديار بالقتل وعده نظيراً مساوياً للموت مصوراً عاطفة حب الوطن على أحسن ما يكون التصوير في قوله تعالى: }وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ{([82]). فالجواهري الذي ذاق مرارة الغربة يثور في نفسه حنين طاغٍ إلى بلده الذي فارق فيه أهلاً كراماً وصحباً أخياراً عذبت بوجودهم أمواه دجلة والفرات ولولاهم لكان النهران ـ عنده ـ في جملة الأنهار الأخرى التي تشق مجاريها في الأرضين:
لـي في العراقِ عصـابةٌ لولاهُـمُ مـــــــــا كـان مـحبوبـاً إلـيَّ عِـراقُ
لا دجـلــــــةٌ لولاهُـمُ وهِـيَ الـتي عَـذُبَتْ تروق ولا الفرات يُذاقُ([83])
ويحظى عهد الشبيبة بالنصيب الأوفر من محفزات الحنين إلى الوطن، لأنه العهد الأبهى الذي دلف ولم يعد بالإمكان استرجاعه، أو تكرار إيقاعه العذب :
بلادٌ بـها استـعذبتُ ماءَ شبيبتي هوىً ولبستُ العِـزَّ بُـرداً على بـردِ
وصلتُ بها عمرَ الشبابِ وشَرْخَهُ بـذكرٍ على قُربٍ وشـوقٍ على بعـدِ
بـــــذلتُ لـها حقَّ الـوداد رعايةً و ما حفظ الوُدَّ المقيمَ سوى الـوُدِّ ([84])
والجواهري يحن إلى الوطن على كل حال غير آبهٍ بما لقي فيه من عنت ونكد، فهو همه المحمول في خـافقه وبشوقه إليه يمحو من نفسه كل مشاعر الجفاء نحوه ويتحرر من عواطفه السلبية إزاءه وإن غبن فيه:
ما إن تزالُ على ما ذُقْتُ من غُصَصٍ لديك من صلب حاجاتي ومن وَطَرِي
حملتُ هـمَّك فــــــــي جنبيَّ أصهرُهُ في لاعــــــــجٍ بوقـيد الشوق منصَهِرِ([85])
ويبقى البعد المكاني في حيال العاطفـة المتوثبـة قصيـر المدى إذ تـتسع مساحـة الوطن ـ بالوجدان ـ أكثر من رقعته المكانية (الجغرافية ) حتى يستحيل خارج الوطن وطناً بالعاطفة والوجدان:
لا تَـحسبوا أنَّ بُعدَ الدارِ يُذهلني عنكم ولا قِصَرَ الأيّـامِ يُـنسيني([86])
وإذا كان البعد عاجزاً عن إيقاف دفق الحنين فيه إلى الوطن فإن يسر الحال في البعد غير قادر على إلهائه عن الحنين إليه، والشاعر يعرب عن هذا الحنين اللاهب من خلال صورة أرساها على التضاد أو التقابل بين المسافات وتباين الأحوال (البعد والقرب (بلادي)) و(ما سرَّني، وأشهى إليَّ) و(حال تحسنت، وساءت الحال) فالشاعر هنا يدع ما يراد ويُشتهى (المسرة وحسن الحال) ويقبل على ما يُعاف ويُجتنب (الترح وسوء الحال) وهو في قبوله هذا ورفضه ذاك مدفوع بالحب الذي يزين له صورة الوطن ويجعله دوماً الأجمل والأحسن والأعلى وعلى وفق ذلك لا يجد جمالاً في المسرة بعيداً عن الوطن لأن تلك المسرة مقصورة عليه وتمثل حالة فردية، والجمال ـ عنده ـ إنما يكون بشمل مجموع على أديم الوطن المنزوح عنه :
وما سرَّني فـي البُعدِ حالٌ تحسَّنتْ بلاديَ أشهى لي وإن سـاءتِ الحالُ
فمن شاقَـهُ بَـرْدُ النعيمِ بـفارسٍ فإنِّـــــي إلـى حـرِّ العـراقين ميَّـالُ
أحِـنُّ إلـــى أرض العراقِ ويعتلي فؤادي خفوقٌ مثلما تـخفق الآلُ ([87])
وللحنين عند الجواهري مظاهر تبدو في سلوكه ومزاجه ترى بعضاً منها في شوقه المتوقد إلى الوطن أرضاً وأبناءً، بيد أنه لا يرى جدوى من هذا الشوق لأنه لا يقوده إلى ضالته ولا ينيله مناه في العودة، ولكن مقدر عليه أن يشتاق:
سَهرتُ وطـال شوقي للعـراقِ وهـل يدنـو بـعيدٌ بـاشتياقِ
وهـل يُدنـيك أنك غيرُ سـالٍ هـواك وأن جـفنك غير راقِ([88])
وشوق الشاعر يموج في داخله ولا إرادة له على كبحه، ووسائله تقصر دون إخماد جذوته، فلا تعينه على إطفاء الشوق خمر يهرب إليها، ولا لحن يلوذ به :
يا سامـرَ الحيِّ بي شوقٌ يرمِّضـني إلى اللِّـداتِ إلى النجـــــــــوى إلى السَّمـَرِ
يا سامرَ الحيِّ بي داءٌ مـن الضجـرِ عاصاه حتـى رنين الكأسِ والوتـرِ([89])
ويبدو السهر المؤرق مظهراً من مظاهر شوقه الغامر الذي يفضي به في نهاية المطاف إلى الحزن المفرط الذي يمنع عن عينيه التغميض، ويستل من نفسه الطمأنينة، وقد أبان الشاعر عن هذا الواقع النفسي المأزوم في صورة محسوسة إذْ شبه نفسه بالضجيع على النار الذي لا يقر له قرار، ويتقلب على ناره أملاً في مخرج يريحه من عذابها، لكنها النار على كل حال وما التقلب إلا الإقبال على مزيد من الألم، أو على ألم جديد :
وبـتُّ بلـيلٍ لفـرط الأسى كـليل الضجيـعِ على نـارِهِ
وظـلَّ يـحنُّ فـؤاد المشوقِ لـذكرِ الـحبيبِ وأخبارِهِ([90])
وبضغط من هذا الحنين أو الشوق الموصول الذي لايبرحه ليل نهار، ولا تنبثق عنه بارقة أمل تؤذن بالعودة أو بقرب العودة إلى الوطن، يجد في البكاء وتسكاب الدموع البؤرة الأثيرة التي يستريح عندها هنيهة ليجمع بها شتات قلب مبعثر الأوصال ليستأنف بعدها رحلة الحنين والشوق ثانية:
أحبـايَ بـين الرافديــــــــن تيـقَّنوا بـــــــــــأنِّي وإنْ أُبـعِدْتُ عنكم لَسَـآلُ
لَئِنْ راقكم ماءُ الفــــــــراتِ وظُـلِّلَتْ عليكم من الصفصافِ والنخلِ أَظلالُ
فـإنيَ من دمـــــــــعٍ عـليكم أذيلُـهُ شروبٌ و مـــــــــــن سوداءِ قلبيَ أَكّـالُ
لقد كان هذا القلبُ في القربِ مُضْغةً وهـا هو من بعــــــد الأحبَّةِ أوصالُ([91])
فالشاعر قد عظم حنينه، وطال انتظاره ولكن أبواب الوطن ظلت موصدة في وجهه، ولم يبقَ في كنانة الشاعر سوى ممكن واحد يخف إليه ويتوسل به وهو أن يبعث عبر الأسوار بسلامه الذي قُدَّ من لهب وصِيغَ من شعل:
ســـــــــــــلاماً كُـلُّـهُ قُـبَـلٌ كـأنَّ صميمَـهــــا شُـعَـلُ
وشوقـــــاً من غريبِ الدا رِ أعـيـــتْ دونـهُ السُّبُـلُ
مقيمٌ حيثُ يضطربُ الـ ـمُنى والسَّعْيُ و الفَشَلُ([92])
والجواهري المبتلى بالغربة في حاضره يغادر هذا الحاضر ليعيش في الماضي السعيد ويهنأ به (فالماضي منطقة مريحة يستعين بها الخائب للتعويض عن حاضره المسحوق وإحباطاته المتكررة حيث يجد فيه نوعاً من الهناء والراحة النفسية)([93]) ومن أجل ذلك يهش ـ في الغالب ـ للذكريات التي يحمل ذهنه منها خزيناً ثرياً يستحضر منه ما يمكن استحضاره بتلذذ جم وحب كبير فهو يتذكر الأمكنة التي شهدت ملاعب صباه على الفرات وفي الكوفة وغيرهما ويعد ذكرياته فيها من أبهج ما نال وسجل:
ويــــــــا ملاعبَ أتـرابي بـمُنعـطفٍ مـن الفُـرات إلى كـوفانَ فالـجُزُرِ
فالجِسْـرُ عن جانبَيْهِ خفقُ أشرعةٍ رفّـافـةٍ في أعـالي الجـوِّ كـالطُّـرَرِ
يا أهنأَ السَّاعِ في دنيايَ أجـمعِـها إذا عـددتُ الهنيءَ الحُلوَ من عُـمُري([94])
وتعود به الذاكرة إلى بيته على دجلة في جانب الكرخ الذي أمضى فيه زمناً حميداً حلا فيه المقام واجتمع فيه الشمل وتتابع فيه إنتاج القصيد:
ويــــــا مَـقيلاً على غربـيِّها أبـداً ذكراه تعطـف من عودي وتلويني
عشُّ الأهازيجِ من سجعي يُردِّدُها سَجْعُ الحمام وترجيعُ الطواحينِ([95])
إن ذلك الفرح الذي أقامته العائلة باجتماع أفرادها في الماضي عاد اليوم ذكرى ولم يعد ممكناً في المنفى أو الشتات، وليس للشاعر إلا أن يجترها مستعذباً إياها ولكن مُشرَّبة بغير قليل من الحزن:
خـليليَّ أشجى ما يُـنَغِّصُ لذَّتي مناحٌ أقامـته عيـالٌ وأطفالُ([96])
ودجلة التي تغنى بها الجواهري عن قرب وعن بعد بأعذب الألحان، وأرشق الكلم حيل بينه وبينها في إثر صحبة طويلة، وهو لهذا تهيج ذكرياته كلما ذكرت دجلة، وهو إذْ يتذكرها إنما يتذكر العراق برمته، وذكريات الجواهري في عراقه كثيرة ليس من السهل على القلب احتمال هياجها إذا ما لمعت تلك الذكريات على صفحة الذاكرة:
نأتْ دجلةٌ عنّي وبانتْ ضفافهـا وأُبْعِدَ ذاك الروضُ ذو المنبتِ الأحـوى
فوالله ما أَقوى على ما تَهِيجُــهُ لقلبي من الذكرى ويا ليتني أقـوى([97])
وتبدو حاجة الشاعر ماسة ـ في مغتربه ـ إلى هذه الذكريات، فالحاضر في نظره (لا يمثل إلا اتضاعاً مرعباً ممجوجاً لا تنكشف جوهريته إلا عبر صدمة بالماضي المشرق)([98]).
وآية ذلك أنه يقسمها طائفتين (جامحة) تستعصي على الذاكرة فتثير في الشاعر الشكوى المرة لأنها تمانع ولا تعين على البلوى فيميل عنها إلى طائفة أخرى (سمحة بر) مطواعة تستجيب لدواعي الذاكرة فتزيل الشكوى، وتهوِّن الاضطراب، وتلبي حاجة النفس اللائذة بظلال المـاضي المحمودة أخباره، فهو يقول :
ويا صـدى ذكرياتٍ يَسْتَثِرْنَ دمي بهِـزَّةٍ جـمَّةِ الألـوانِ تـعـروني
أشكو المـرارةَ من إعناتِ جامحةٍ منـها إلـى سمحـةٍ بَـرٍّ فتُـشكيني
مثل الضـرائرِ هـذي لا تُطاوعني فأستـريحُ إلـى هـذي فتُؤويني([99])
والذكريات التي أودعها الشاعر في ثنايا الماضي مع صحبه في الوطن ما زالت مؤثرة تأثيراً إيجابياً في أولئك الصحب والأقران المنتشرين خارجه، فهي تجمع شتاتهم، وتقوي الآصرة بينهم على الرغم من النأي عن الوطن والتشرد في المطارح:
يــــــــــا أُمَّ سَعْدٍ إن تناءتْ دارنا فالـذكرياتُ بيننا تُـقرِّبُ([100])
إن (الشاعر يسترجع الذكريـات ويعيش أحداثها، ويقحم على الحاضر أجواءً من المـاضي الذاهب… لكنه لا يود أن يطويها في ذلك الماضي، لأنها معين لا ينضب من مضامين وموضوعات وإيحاءات)([101])، وبهذا يتجلى واضحاً أن الحنين إلى الوطن واسترجاع ذكريات الماضي السعيد كانا شاغلين مهمين من شواغل الجواهري الغريب.