أنت هنا

قراءة كتاب حبي الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبي الأول

حبي الأول

كتاب " حبي الأول " ، تأليف سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب : 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 4

1

أعود اليوم لدار العيلة لأقوم بإصلاح ما تصدع ونخره السوس، وأجعل من الدار، دار العيلة، مكانا يُسكن، شيئا يُذكر وله تاريخ. ما عدت أطيق جو الغربة والطيارات والمطارات والبدء من جديد في كل مكان أذهب إليه. هناك عمان، قبلها بيروت، ثم لندن، ثم باريس وواشنطن، ثم المغرب، وأخيرا جئت إلى الضفة. شيء مزعج أن تحس أنك طَرْدٌ آدمي متنقل في كل مطار. ما أن تستقر في مكان ما حتى ترحل. تبدأ من جديد، وما أن تبدأ باعتياد الجو حتى تنتقل إلى آخر، وآخر، وإلى آخره بلا نهاية، وبلا تحديد.

عزمتني زميلة، في القاهرة، على فنجان شاي في منزلها. رأيت الكتب ورفوف الكتب وغبار الكتب وأصص المدادة والخنشار في ركن عتيق من منزلها، وحديقة صغيرة خلف الدار فيها شجرة عمرها مليون، تحتها قطة تنام بهدوء وسكينة، فحسدت القطة والشجرة وحسدت الدار. سألت الزميلة عن عمر الدار وكم سنة سكنت في تلك الدار، فقالت عشرة. عشرة؟ عشرة! عشر سنوات في نفس الدار؟ حسدت الزميلة والقطة وحسدت الدار.

في هذه الدار ولدت أنا، وأمي وداد وسِتِّي زكية. على هذه الدار مرت أجيال، ومر احتلال وعواصف وزلزال رهيب جعل مدينتنا مقلوبة، رأسها لتحت وأرجلها لفوق وحولها دمار وشظايا وغبار كثيف. وكذا الاحتلال، مثل الزلزال، وكذا الهجران والوحشة، وبقايا أهل هجروها وغابوا عنها، رحلوا عنها، همدوا، ماتوا، باتوا ذكرى في زمن عتيق متقطع، مثل سفرنا، يعني رحلات، يعني مراحل، وطَرْد آدمي متنقل عبر محطات وقطارات ومطارات، ومراحل.

أنا كنت هنا منذ التاريخ، أقصد سنوات جرارة، خمسين سنة، سِتِّين سنة، لا فرق كبير في عمر الزمن، أما الإنسان، فأنا نقطة، بل فاصلة في سطر جديد وفقرة جديدة. لكن ما كُتب من الأول، في أول سطر يبقى معنا مثل التاريخ، والذكريات، والطفولة وصورنا القديمة قبل التجاعيد وانحدار الخطوط في سحنتنا وأفول اللمعة من العينين.

أنا كنت هنا حين كانت سِتِّي في عمري، وربما أصغر، أصغر بكثير. كانت ما زالت في الأربعين، وفي الأربعين في ذاك الوقت، أقصد أواخر الثلاثينات، كانت المرأة في الأربعين تبدو عجوزا. نساء الأربعين في ذاك الزمن كن بضفائر مجدولة بعضها خمري من الحناء وبعضها رمادي وبعضها أبيض، أبيض مصفرّ. يلبسن الرمادي أو البني أو الكحلي، سادة بلا زهر ولا تعريق، وله قصات مستقيمة، لا تتغير، مثل الشوال بلا وربات ولا التواءات ولا حركات ولا زينة. يعني المرأة في الأربعين تصبح جدَّة، حجة وحماة، وختيارة.

لكن سِتِّي في ذاك الوقت، ما كانت ختيارة على الإطلاق. كانت أمي، وأمي أختي، وأنا صغيرة ووحيدة بجو مثقل بقصص الأبطال والشهداء والمعارك، وكلمة ثورة تدور وتدور مثل الساعة، مثل العقرب، لا تتوقف. تبدأ من فوق ثم تنزل، وتعود ثانية إلى أعلى، إلى رقم 12، مثل العقرب، يلف ويدور ويعود ثانية إلى نفس الرقم، ثم ينزل.

في هذا الجو من كان هنا؟ سِتِّي وأنا، وخالي وخالي، وخالي الآخر في السعودية، وأمي وداد. من ظل هنا؟ لم يبق أحد إلا سافر، هاجر، ولّى، أضحى ذكرى. وأنا أعود بعد كل السنين لأصلح ما اهترأ وتصدع بعد الزلزال، وقبل الزلزال، وأعيد إلى الدار بعض الرونق، وأزيل الغبار.

*****

في هذا المكان، تحت النافذة الشرقية، وعلى طراحة محشوة بصوف ناعم، وجهها قطني محزز بخطوط توتية وعسلية كانت سِتِّي تجلس صبحا أمام الكانون. مع صلاة الفجر تجلس هنا تغلي القهوة وترش على النار حبات الهال وقشر الليمون حتى تخفي رائحة الفحم. تكون قد أعدت فطورا بلديا معتبرا: جبنة بيضاء نابلسية وزيت وزعتر ولبنة وحلاوة طحينية. تخرج أمي معكرة المزاج من غرفتها. تقول صباح الخير بصوت ناشف. ترشف رشفات من القهوة، وهي تجلس على كرسي صغير من القش قرب الكانون، وأنا أجلس عند قدميها لتمشط شعري وتشده في ضفيرتين خلف ظهري. تقول سِتِّي بتودد: أعمل لك عروس؟ أمي لا تجيب، فأقول أنا: عروسة لبنة. ومع العروس تبدأ رحلتها مع الأحلام، ما حلمت الليلة ومعنى الحلم. تبدأ بالجد ثم أموات منسيين يأتيهم الدور فردا فردا، ثم الأحياء، خالي وحيد، ثم خالي أمين، وخالي سمير في السعودية، ثم أمي وداد وأخيرا أنا. تسرع أمي في تمشيطي، فتسأل سِتِّي: سامعة يا وداد؟ أسمعها تنفخ من أنفها وتصفع ظهري صفعة خفيفة من غير ألم، وتقول بسرعة وهي تقف: سامعة، سامعة، يا الله قومي. فأسرع أنا نحو الجدة، وتسرع أمي بلبس المريول، ثم الإيشارب، وتقول وهي تتجه نحو باب الدار: اليوم وبكرة نوبتجية. وسِتِّي تنادي: لقمة صغيرة تسند بطنك، ارحمي حالك. أعمل لك عروس؟ وتكون قد عملت تلك العروس، فآكلها أنا.

تنظر سِتِّي تلك النظرة عبر الشباك فوق الياسمينة وشجر الخشخاش، وتهمس بحزن: مسكينة وداد، حظها ناقص! أقول بسرعة كي تنسى الأسى: وأنا يا سِتِّي ما سأكون؟ تقول برقة وحزن شفيف: عروس، عروس، خذي كليها. أقول بغيظ: لأ يا سِتِّي، أنا لما أكبر ما سأكون؟ تبتسم لي بسمة صغيرة: عروس، عروس، كلك أبيض، من فوق لتحت كلك أبيض. أقول بذعر: يعني المريول مثل أمي؟ لأ يا سِتِّي، أنا لما أكبر بدي أكون... وأتوقف لأني لا أعرف ما سأكون، ولأني أرى سِتِّي تدمع وتمسح عينيها وتدمدم بتلك الآيات، فأحس بثقل في قلبي ويملأني الحزن.

في ذاك الصبح من ذاك الصيف، وبعد خروج أمي للشغل، قالت سِتِّي:

- أنا شفت بالمنام، الله أعلم.

وسرحت ثانية عبر الشباك وأنا أتابعها وأتأمل لون العينين، زمّ الشفتين، لون البشرة، ومفرق شعرها بين الحناء. أحيانا تهمله، فيبدو الشيب كخط مرسوم بالطبشور. ولون الحناء شراشيب ذرة، ولون البشرة أبيض شفاف كالمرمر، حتى الشرايين الدقيقة تظهر واضحة مرسومة، لونها أخضر.

قالت همسا:

- الليلة في المنام أنا شفت سيدك، وقال لي أروح عند خالك وحيد.

كنت قد اعتدت تلك الأقوال، فلم أسأل كيف يقول من شبع موتا في قبره وصارت عظامه مكاحل افعلي كذا أو سوّي كذا. كانت أرواح المرحومين تحوم حولها في كل مكان، وأنا أيضا في كل مكان، آخذها معي أينما أذهب، لدروس الدين وحفظ القرآن، ودروس الخط والخياطة، وحتى التاريخ والجغرافيا. كنت قد أنهيت الابتدائية وحفظت كتب السكاكيني، راس روس، والولد النظيف، والشمس الذهبية عن ظهر قلب.

الصفحات