أنت هنا

قراءة كتاب لبيك: حج الفقراء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لبيك: حج الفقراء

لبيك: حج الفقراء

كتاب " لبيك: حج الفقراء " ، تأليف مالك بن نبي ،  ترجمة: د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

لقد فاجأه صوته الشاذ الذي اخترق صمت المحلّ. لكن روحه واصلت ملاحقة حلمه، الذي أقحم فيه كل ما يعرفه من مفاهيم عن الحج، إذ تُعَدُّ هذه المعارف جزءاً من ميراث كل عائلة مسلمة. إنّ أجيالاً من الحجاج حملوا من مكّة انطباعاتهم ومفارقاتهم وبذلك كوّنوا جزءاً مهمّاً من التراث الشعبي الإسلامي.

هل سيتابع إبراهيم حلمه كما يحلو له، أو بالأحرى سَيُوجهُه نحو المسار العادي للحجاج؟

بالنسبة إلى المسلم العادي من شمال إفريقية، كما هو حال الفحّام، تبدأ المرحلة الحقيقية للرحلة المقدسة من بور سعيد، الذي ينطقه عرب المغرب (البرّ السعيد).

بالنسبة إلى الناس البسطاء من هذا المكان يبدأ الحجّ إلى الأراضي المقدّسة، إنّ طائفة من التفاصيل المتعرّجة تبدأ تسترعي اهتمام الحاج بدءاً من دخوله البحر الأحمر، فتذكره تارة بحدث ديني من الماضي وتارة أخرى منسكاً يجب القيام به.

وهكذا الحال مع أجيال من الحجيج، هكذا كانت تسمي (حفرة فرعون) حيث التاريخ المقدّس يشير إلى معبر موسى في البحر الأحمر، ويقولون إن فرعون ما زال في هذه الحفرة حبيس الدّوامة إلى آخر الدهر. عند هذا المكان، وفي كل سنة يراقب الحجيج من فوق مركبهم (حفرة فرعون) وبعضهم يدّعي أنه حقّاً رآه.

من هذا المكان، يمكن أيضاً رؤية (جبل الطور) حيث كلَّم الله موسى بالوادي المقدّس حيث رأى رسول بني إسرائيل (القبس).

بعده يظهر الميناء الحجازي الصغير (رابغ) الذي يُنَبه الحجيج بأنّهم قد دخلوا المنطقة المقدّسة، حيث يتخلَّى الحاج عن ملابسه العادية: الجبّة، البرنس والعمامة حاسر الرأس ولا يتزيّا إلا بلباس الإحرام. من هنا تبدأ حياته التعبدية وشعائره الدينية. وينسى كل شيء يربطه بالأرض، وبالعائلة وبمصالحه الدنيوية.

لبّيك اللهمّ لبّيك.

وانطلاقاً من (رابغ) لا تنقطع هذه التلبية فوق المركب الذي يحمل الحجّاج منها إلى جدّة. هكذا أرخى إبراهيم العنان لذكرياته التي ورثها عن جدته التي كانت تحكيها لهم في ليالي سمرهم العائلي عندما كان صبياً.

فتذكّر جدّته العجوز التي كانت تسحره بقصصها الرائعة، وذكريات عمر ذهبي تطربه، والحنين يجتاحه إلى ماضيه العائلي، إلى والده وأمّه وإلى طفولته. فجأة تسلل إلى قلبه إحساس بالخطأ بسبب وجوده هنا، في محل الفحّام، وعلى هذا الفراش الحقير.

حاول جادّاً أن يتخلّص من هذا الإحساس المؤلم والعودة إلى أحلامه. فوصله صوت شخير من الخارج، تذكّر رفيقه، كان من عادته عندما يرجع من دورية أن يرقده في المتجر هذا إذا لم يستلق مصروعاً بالخمر على حافّة مجرى الماء. وعلم هذه المرة أيضاً، أن رفيقه لم يقوَ على اجتياز عتبة المتجر واستلقى على مدخله، وقد ملأ شخيره غرفة إبراهيم الذي لم يعد قادراً على التلذّذ بحلم اليقظة الذي كان يريد أن يتابعه إلى جَدّة ومكّة ثم المدينة...

لقد انقطع سحر الحلم لدى إبراهيم الذي عاد فكره مرغماً، إلى أجواء المحل. والآن، إذ عَينَاه وهما نصف مُغمضتَين تريان صوراً أكثر حسّية. تجول بصره في دُكّانه المعتم الذي كانت تبثه الشمعة بضوئها الخافت ودخانها. بدأت نشوة الحلم الذي رآه في نومه ويقظته تتلاشى حين أدرك حالته الراهنة والأشياء القاتمة التي كانت تحيط به.

انتَابَه إحساس بالاختناق جعله يعتدل جالساً متكئاً على ذراعيه، فوقع نظره على رجليه الممدودتين والمنتعلتين حذاءه القماشيّ الذي لم ينزعه منذ البارحة حين تهاوى على فراشه.

أحس إبراهيم بخجل مضاعف من فردتي حذائه: حذاؤه الذي لم يكن يلبس مثله سوى (أولاد الحرام) مثلما يطلق على السفلة في الجزائر.

فحذاء كهذا بالنسبة إلى الناس الطيبين من الجيل السالف، لا ينتعله إلا قطاع الطرق وأشخاص في منتهى النذالة لكي يفاجئوا غيرهم دون إصدار صوت أو للفرار بسرعة.

هذا الحكم المسبق بقي في العائلات الشريفة، وقد ورثه إبراهيم خلال تربيته في أثناء الطفولة وما زال متأثراً به حتّى هذه اللّحظة.

ابتلع إبراهيم ريقه، وكأنّه جرعة من المرارة يصطحبها شعور بالخجل والألم، لم يعهدهما منذ زمن طويل.

وأمعن النظر مرة أخرى في حذائه ثم انفجر ضاحكاً وكأن نوبة جنون قد ألَمّت به.

وكان يمتزج في فكره منظر حذائه ودكّانه مع الإحساس المتناقض الذي أيقظته في نفسه كلمة (بوقرعة) وكلمة (الحاج) ليخطر بباله موضوعٌ مثير للسخرية.

بعد أن مرت نوبة الضحك، بقي مدّة مبهوتاً وتخلّص- وهو يختنق غيظاً- من حذائه مثلما يتخلّص أي إنسان من خزي ووصمة العار، وكان يعتريه هذا الإحساس الغريب الذي ينتاب المرأة الساقطة والذي يجعلها تتقبَّلُ الحاجز الذي يوضع بينها وبين المرأة الشريفة في الحمّامَات الشعبية والأحياء المجاورة لها. ومهما يكن انحطاطها فإنّ النفس المسلمة تحافظ على بعض من كرامتها في مواجهة الإحساس بالخزي، وهي ترزح تحته.

كان لدى إبراهيم هذا الإحساس بالخزي الذي ينزل بهذه الشريحة المشبوهة من الناس الذين طبعتهم الحياة التي أخذت منعطفاً عصرياً والذين هم متشردون دون مأوى ولا عائلة على هامش مجتمعين: مجتمع مسلم وآخر أوربي.

كان لديه إحساس بأنه ينتمي إلى الشريحة الثانية هذه.

الصفحات