أنت هنا

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

وتريدين مني الآن أن أروح؟ نعم· ولكن إلى أين؟ إلى أي جهة؟ ومن أي قاعدة أنطلق؟

- إلى جهنم· إلى جهنم الحمراء· إلى أي مكان لا أراك فيه ولا تراني·

كان الماء، في أسفل الأرض، لا زال يحتفظ ببعض أشعة الشمس التي خلفت وراءها الكون· وبدأت أواخر الضوء الباهت تولي الأدبار· كان الليل يتساقط رذاذًا· ومن برج السين العالي صرت أتملّى بامتعاض شراذم البشر العائدين إلى سجونهم البائسة· من النافذة التي تعلو المدينة، كلها، تطاولت على قدميّ لاحقًا شعاع الشمس الأخير· الشعاع الذي أحاط به غيم مفاجئ، وغطّاه: الشعاع القتيل·

شيء يشبه الاهتراء كان يحيط بالعالم· اهتراء لم يكن عابرًا ولا لطيفًا· يكاد يطال مكونات الحركة والسكون، بلا استثناء· ومع الاهتراء لا ينفع إلا تغيير خصائص الأشياء·

من الجدار، المقابل، الذي كانت تلتصق به، جاء صوتها راعدًا:

- مرة أخرى الأشياء؟ ما يلزمك هو تغيير خصائصك أنت· هو التخلّص من إرثك المخيف: معرفتك الشكلية وأصول نظرتك العتيقة للعالم· تلك العناصر المبجلّة لديك، والتي هي أساس الحماقة عندك: حماقة الغيرة، وحماقة المَثَل، وحماقة الانتظار· وإن كنت لا تزال تعتقد أن قلبك أبيض، فإنني أصر على أن رأسك فارغ· وفراغ الراس هو المسئول عن خواء النفس· نفسك اليابسة مثل الحجر المشوي· وإنني لأتساءل، الآن، كيف يمكن لك أن تقف مثل الموتى، لاصقًا بزجاج النافذة، منذ أول الغروب· تقف بلا حراك· تنظر ببلاهة في فراغ أصفر دون أن يرف لك جفن· أكثر من مرة اقتربت من ظهرك والسكين السوداء الحادة بيدي· ولم تنظر حتى إليّ· كنت أحدد، من وراء، نقطة الطعن· مرة أختارها يمينًا، وأخرى يسارًا· واستقر الرأي، أخيرًا، على القلب· وكأن جسدك لم يكن لك، بقيت صامتًا كالتراب· كتراب منسي·

وانتفضت مأخوذًا: تريدين قتلي؟ ودون أن تهتمي تابعت:

- منذ متى وأنا أنتظر لمسة أو كلامًا· ولكنك لست هنا· كما أنك لست هناك·· فأنت كما أعرفك لا يمكن لك أن تكون إلا تابعًا أو متبوعًا· تتلاعب حتى بحياتك· ومقابل سلوكك البائس تتطلب دائمًا، سلوكًا آخر أكثر بؤسًا· وما تحررك المزعوم إلا وسيلة إضافية لاكتساب غنائم جديدة إذ لم يكن التحرر عندك، كما صرت أعرف الآن، فعلاً يُفعل لذاته بل مدخلاً للولوج في متاهات إضافية، لم تكن مهيئًا لإدراكها· ولم يكن ذلك عيبًا، لو حاولت أن تتطوّر· أن تنمي مشاعر الثقة بالنفس· أن تتحمل الألم الأخلاقي المواكب، عادة، لمثل هذه الابتسارات· كنت أراك تتدحرج من دوّامة إلى أخرى قبل أن يتسنى لك التفوّق والنبوغ· وأردت أن أشدّ أزرك ولم تقبل· كنت تعتقد أن ذلك حدٌّ لك ولم يدهشني ذلك منك· فمن يملك تصورك الشكلي المُبسّط للعالم، لن يكون إلا متبجحًا وجَروحًا·

نقطة، نقطة، كان الخوف يتجمّع في عينيّ·

لم تكن صادقة، ولكنها لم تكن كاذبة، أيضًا· كانت الرَعبْةَ، ذلك الليل، تنبثق من التقاء ما مضى بما يحضر الآن·

التقاء لم يخطط له من قبل إلا أنه لم يكن صدفة· التقاء عالمين؟ التقاء بَشَرَيّن؟ لا، بالنسبة لي كان انشقاق بشر واحد: نهاية اتحاد الأنا بالآخر، وتماهيها معه· هذا الاتحاد الذي تعلمته: ميزة، لم يعد كذلك الآن· وشيئًا فشيئًا، اكتشفت، أن اتحادي الدائم حتى مع نفسي عطب يجب التخلص منه· كنت لا أني أردد، منذ أن تركت الشام: هذا لكي تتعلّم ألا تخضع لأحد، أبدًا كنت أدربُ نفسي على الالتفاف المستمر عليها·

لم تكن المشكلة تتعلَّقُ بالثقة، وإنما بالمشروع· فمنذ أن عرفت أن الإنسان ليس سوى مشروعه الشخصي، لم أعد أفرط في شيء، مهما كان ضئيلاً، وهو ما جرّني إلى تناقض مستمر، وأحيانًا غير مفهوم· تناقض، لا مع الآخرين، فحسب، وإنما مع نفسي أيضًا· كنت أريد أن أصل الدرجة القصوى من الوعي· ولم يكن إلا وهما· وهم مريع ومحبط· فتصوري للوعي كان ينبع من تصوري للعالم· وهو تصور لم أفرزه أنا· وإنما رضعته· تصور مبني على أسس أخلاقية أثبتت، يومًا بعد يوم، عسفها، وابتذالها· ومع ذلك، كان لا من إعادة النظر بذلك كله· وهو ما صرتِ تسمينه الآن توتراتي

لكن تلك التوترات التي ترينها بائسة وبسيطة، أتعرفين كَمْ أقاسي لإنجازها؟ جبال ووهاد ورياح تتقاطع خلال دهور في أعماقي، قبل أن يرى توتر من توتراتي النور· لم أكن أحسب أنكِ شديدة الاحتقار لتوترات الآخرين إلى هذا الحد·

وفجأة توقفتُ عن الكلام·

كنتُ أريدأن أطبق قاعدتي الجديدة: تنفّس قبل أن تحكي من قبل، كنت أسابق الريح· أريد أن أبلغ الآخر رأيي (حتى ولو لم يطلبه)· كنت أعتقد أن ما أملكه لا يملكه أحد غيري· لكن تغيير المكان ضيق رحابة اللسان· ضيقّها بالمعنى المحدد: لم تعد ذخيرتي من اللغة تُسعف لساني الجديد صرت لأول مرة أفتش عن كلمة واحدة أنقل بها أكثر من مَغْزى (لكأن المعاني قيم جبرية، تنقلها عبارات هندسية لا يمكن ارتجالها)· وهو ما أحالني، هذه المرة، إلى النفس الصامتة هل تفهمين؟ كدت أسألها، لكن الضجة المفاجئة ملأت نفسي بالخوف· شظايا· شظايا· كانت الأشياء تبدأ كرّها وفرّها من جديد·

الصفحات