كتاب " قضايا في الرواية الأردنية " ، تأليف الدكتور نضال الشمالي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب قضايا في الرواية الأردنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قضايا في الرواية الأردنية
- بس الانجليز منحازين علنا لليهود·
- إذا ما قدرنا نخليهم ينحازوا لنا، بنقدر نخليهم يضلوا على الحياد·
- الانجليز مستحيل يكونوا على الحياد· يا بكونوا معك يا ضدك· قوة طاغية ما بهمها غير مصلحتها· ومصلحتها هلأ مع اليهود·
- وإحنا مصلحتنا بوحدتنا· كيف الإنجليز بدهم ينحازوا إلنا أو يوقفوا على الحياد وإحنا كل عيشتنا صراعات ونزاعات(21)·
وهذا التداخل بين الشخصية السياسية الحقيقية والمفترضة يشكل تعميقا للحدث التاريخي في نفوس القراء ويساعد النص الروائي على طرح أكثر من إيديولوجية سياسية متناقضة لا يشترط أن تكون بالذات إيديولوجية الكاتب السياسية فكتاب الرواية غالبا ما يقومون بعرض هذه الإيديولوجيات والمواجهة بينهما من أجل أن يقولوا ضمنيا شيئا آخر ربما يكون مخالفا لمجموع تلك الإيديولوجيات نفسها(22)، وظلال مثل ذلك نلمسه يخيّم على الشخصيات المتخيلة في العمل كشخصية الصحفي أبي جبران أو شخصية سيف الحجاج مالك الصحيفة الفلسطينية في القدس·
وفي مشهد متأخر من عمر الزوبعة يأتي قرار قانوني جديد مثبت تاريخيا ينعكس على شخصية رئيسية متخيلة في العمل هي شخصية فريد الأدهم: في الخامس من آب عام 1939، حقق شرق الأردن نقلة إدارية· عدّل القانون الأساسي للإمارة، مستبدلا باسم المجلس التنفيذي اسم مجلس الوزراء بين ليلة وضحاها، تحوّل الإداريون التنفيذيون إلى وزراء، مما أعطى الإمارة صفة الدولة بمؤسساتها الداخلية والخارجية، ومنح الأمير صلاحية تعيين القناصل في دول الجوار· حقق هذا التحوّل نقلة اجتماعية لفريد الأدهم، الذي غدا شخصية مرموقة· فقد عادت عليه الاضطرابات في فلسطين بالخير الوفير، وتضاعف ثراؤه عشرات المرات مع اندلاع الحرب العظمى، ليغدو اسمه على كل شفة ولسان، حتى صار مثالا للتحذير من الإسراف(23)· وما سبق مثال مباشر على الاستثمار التاريخي في تطوير الأحداث السردية النابتة على امتداد الخط التاريخي للعمل، ولكن ليس بفصل الجانبين بل بالمزج بينهما دون خدش لحقائق التاريخ الثابتة·
ومن الروايات التي شاعت منها هذه الطريقة رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور أيضا، والمثال التالي يوضح ذلك، وفيه كشف عن بعض جرائم القشتاليين في محاكم التفتيش في الأندلس: احتدّ صوت حسن·
- هل تتهمنى بالتخاذل؟
لم يجبه سعد ولكنه تطلع إليه فزادت نظرته توتراً كانت النظرة تتهم·
علا صوت حسن:
- لن أدافع عن نفسي ليست خطيئة أن تحمي أهل بيتك ولو بالتحايل، تواصل الحياة لكي تضمن لهم لقمة العيش والستر بين جدران بيت يضمهم، القشتاليون لا يرحمون وأنت تعرف وترى بأم عينيك كل يوم إذ تساورهم الشكوك في شخص، مجرد شكوك، يأخذونه ويحققون معه ويعذبونه حتى ينتزعوا منه اعترافات قد لا تكون إلا اختلاقاً يختلقه عقله للخلاص من العذاب، وقد يحكمون عليه بالموت أو يموت من عذابهم قبل أن يحكموا فيصبح عياله بلا عائل وتخرج زوجته إلى الشارع لتعيل صغارها، والحرة لا تأكل من حليب ثدييها، ولكنها تأكل حين يجوع الصغار!
- كلام كله صحيح، ولكن ما الذي تقترحه لمواجهة هذا البلاء؟(24)·
ومن خلال المشهد الحواري السابق ظهرت المعلومات التاريخية وهي طريقة مقنعة في تقديم التاريخي من خلال الفني، فالشخصيات المتحاورة نابت عن الراوي في إيصال المعلومة التاريخية التي تكشف عن وحشية القشتاليين ضد من بقي من العرب في غرناطة·
الطريقة الرابعة: وفي هذه الطريقة يروى الحدث التاريخي أكثر من مرة، ولكن في كل مرة تتولى أمره مجموعة من الشخصيات يعالجونه بطريقتهم الخاصة، فتظهر للخبر أكثر من زاوية للرؤية، مما يساعد على تبلور الحدث التاريخي واتضاح معالمه أكثر، فضلاً عن أن هذا اللون من تقديم التاريخي في ثوب السردي يخفف من حدّة المسؤولية التاريخية المناطة بالرواي، ونذكر المثال التالي من رواية أرض السواد التي شاعت فيها مثل هذه الظاهرة ظاهرة تكرار السرد خاصة إذا كان مجال الحديث خبراً تاريخياً· والخبر التالي سيتردد ذكره على ألسنة الناس فيرويه كل واحد بطريقته مضيفاً أو مضخماً أو منتقصاً، إنه خبر مقتل سعيد باشا والي بغداد المخلوع الذي قتل عام 1817م وحيثيات هذا القتل: في الكرخ، في قهوة أبو الخيل يتجمع عدد من رجال سليمان الغنّام، فإن كل واحد من هؤلاء الرجال، حين يسأل عما حصل في القلعة (مكان مقتل سعيد باشا) تكون إجابته مطابقة أو مقاربة لإجابة الآخرين! يقول هؤلاء الرجال إنهم تركوا القلعة في وقت مبكر، تركوها قبل أن يدخل داود باشا بغداد بأيام، ربما تكون لأنهم لم يعودوا يعرفون من هو الوالي، ومن له حق إصدار الأوامر، ليس ذلك فقط، كانت الأوامر تتغير بين لحظة وأخرى·· ويتبرع واحد من الجالسين لكي يقول إن الرواتب لم تدفع لهم منذ شهور·· وهكذا تركوا القلعة دون أسف·· ويؤمن آخرون على صحة ما يقال، كي لا يظن أن لهم علاقة أو يتحملون أية مسؤولية(25)· والمقطع السابق هو تمهيد لرواية حدث مقتل سعيد باشا ضمن أكثر من تصور، والراوي هنا يظهر براعة في نقل الحدث بسرعة من مكان إلى مكان: يقول رجال الغنّام بانفعال إن لا أحد يستطيع أن يدافع وأن يحمي مثلهم، كانوا لا يسمحون حتى للطير أن يعبر فوق القلعة حين كانوا فيها·· أما أن يكون الحراس نياماً أو متساهلين، وأن تقع مثل هذه الأحداث الخطيرة، ولا يستطيعون منعها أو مقاومتها· فهذا يؤكد صحة الموقف الذي اتخذوه بالانسحاب في وقت مبكر(26)·
وما سبق يقدم رؤية من جانب الحراس الغاضبين الذين انسحبوا من مكان الحدث قبل وقوعه لعدم رضاهم عن مجريات الأمور· وفي رواية ثانية: وفي المحلات الأخرى بصوب الكرخ تتردد القصة ذاتها، أو ما يشابهها باختلاف بسيط في بعض التفاصيل· تقول القصة إن حراس القلعة كانوا نياماً لما تسلل عدد من رجاله داود، واستطاعوا الوصول إلى الجناح الذي يقيم فيه سعيد باشا ودون صوت، دون أن يحس بهم أحد، اقتحموا غرفته، وهناك حدث الاشتباك، ولا يعرف ما إذا قتلوا سعيد أو أسروه·· حين تروى القصة بهذا الشكل، تترك احتمالاً أن سعيد لم يقتل، ولا يعرف إذا سيسلم نفسه، أم سيقاوم··(27)
وفي مكان آخر في محلة الميدان هناك إضافات جديدة: سكان محلة الميدان يؤكدون أنهم دفنوا رأسين كانا بالقرب من القلعة، لكن ليس أي منهما لسعيد باشا، وهذا ما أقسم على صحته منعم الأسود أحد الذين عملوا في السراي في فترة سابقة، وقد رأى بنفسه، ومن قرب سعيد باشا، وبالتالي له القدرة على التمييز بين هذين الرأسين ورأس الباشا !(28)· ولا تنتهي الإخباريات عند هذا الحد بل يكثّف الراوي جهوده لجمع المزيد منها: أما سكان الأطراف من، القريبين من السور، فيرددون قصصاً من نوع آخر، وكلها تؤكد أن سعيد باشا لا يزال حياً، وقد نجا من الحصار الذي فرضه داود، وغادر بغداد، مع عدد من رجاله نحو الجنوب··(29)·
أما القاطنون عند الباب الشرقي فلهم روايتهم كذلك: سمعوا طلقات نارية في ليلتين متواليتين، وقيل إن عدداً من الفرسان حاولوا اختراق الطوق ومغادرة المدينة، من هذه الناحية، لكن ردّوا· أكد ذلك أحد الحراس الليليين، وقد توارى في الوقت الذي مدّ فيه الفرسان، لكنه سمع صيحات تحذير ترددت عدة مرات، وقد ميز بوضوح كلمة بالذات يا باشا·· يا باشا ثم عاد الفرسان من حيث أتوا !(30)·
ثم تتوالى الروايات إلى أن تنتهي في قهوة الشط حيث عامة الناس وبسطاؤهم الذين لا يملون تجاذب الأحاديث وافتراض الحيثيات إلى أن يقرر أكثر من واحد: أن سعيد باشا قتل، وأنه مات وشبع موتاً، كان كل من يتكلم يقول ذلك بثقة راسخة، خلافاً للأماكن الأخرى(31)· إن ما سبق من تجاذب وتناقل لحادثة يجهل الناس مجرياتها ضمن أكثر من احتمال ليخفف على المؤلف/ الراوي من ثقل المسؤولية التاريخية في تقرير قصة دون أخرى، فيوظف المؤلف/ الراوي غير قصة فيحقق أكثر من غاية:
- إذ تخلّص أولاً من المسؤولية التاريخية التي قد تشكك في مصداقيته التاريخية، إذا ما علمنا أن المصادر التاريخية التي أرخّت الخبر لم تتفق على حيثيات مقتل سعيد باشا وقد استفاد المؤلف من هذه الحيثيات فنثرها على ألسنة البغداديين(32)·
- إثبات قدرة الراوي العليم على التنقل بحرية وخفة بين أهل بغداد لرصد ما يتقولانه عن هذا الأمر، وإثبات هذه القدرة يؤكد مرونة الراوي في السماح لغيره بأن يتكلم ويبدي وجهة نظره·
- تأكيد أن هذه الرواية جاءت لإظهار أناس القاع وإبراز آرائهم والتغلغل بينهم وكشف وجهات نظرهم، وهذا ما حاول مؤلف الرواية تأكيده في أكثر من مرة كان من الضروري في أرض السواد أن تبرز بوضوح الملامح الدقيقة للأماكن والمناخات والبشر(33)، وقد استطاعت الرواية أن تنطلق من الشعبي لإقرار الحدث العام·
- أن الكاتب يحاول أن يخفي رأيه السياسي بين مجموع هذا الآراء لأن صوت الكاتب أو إديولوجيته يكونان موجودان ضمن الأصوات المتعارضة منذ بداية الرواية، غير أنّ جميع هذه الأصوات تبدو متعادلة القيمة بحيث يكون من المتعذر تماما تحديد الموقف الذي يتبناه الكاتب(34)، والكاتب هنا يتوسل الحيادية ولن ينتبه القارئ لأديولوجية الكاتب إلا بعد الانتهاء الكلي من القراءة·
الطريقة الخامسة: أن تدار الأحداث بطريقة تصاعدية تجعل المتلقي محتاجاً إلى خاتمة تاريخية تحسم الموقف وتكشف النهاية، وفي مثل هذه الحال يبلغ الصدق الفني في تمازجه بالصدق التاريخي مرحلة متقدمة·
فعلى سبيل المثال نقرأ المثال التالي في نهايات الجزء الثاني من رواية الزوبعة وقد تصاعدت الأحداث وصار لزاما أن تنتهي عند قفلة سار الكاتب بروايته إليها، وهي قفلة تاريخية خالصة كانت نتيجة طبيعية لاحتدام السرد بين المتخيل والتاريخي: اشتبك الجيشان في معركة حامية الوطيس استمرت نصف نهار· كان الأرادنة ساخطين حاقدين· وكان الوهابيون يرومون القضاء على الخزعبلات في جلابيب من غير سراويل· فسقط على الهضاب والكثبان والوديان مئات القتلى، وتأوّه بين الصمعاء والثمام مئات الجرحى· فانهزم الوهابيون لكنهم لم يستسلموا، وانتقم الأرادنة لكنهم لم يثأروا· فلحقوا بهم حتى منطقة عقلة الصقور، وهناك انقلب الموقف بعد أن سارع ضنى تومان لنجدة الإخوان، فتراجع زعل بالرجال إلى وادي رم، ولم يلحق به الوهابيون(35)· ومثل المقطع السابق لا يمثل إبداعا سرديا بل توقيتا تاريخيا لإنهاء مرحلة في عمر الرواية والتحضير لمرحلة أخرى·
وفي السياق نفسه نجد مواضع في رواية القرمية يجنح السرد فيها نحو الاستعانة بالتاريخي، لأنه عمود الرواية الفقري ولا بد من احتذاء التاريخي لإقفال العمل بعد أن مهّدت له الأحداث الكفيلة له بذلك: أما في العقبة فقد اضطربت الأمور وانشقت الصفوف والضباط العرب يسمعون بأمر اتفاقية سرية بين انجلترا وفرنسا لاقتسام البلاد بعد النصر، في نفس الوقت الذي تشدّد أوامر اللنبي اللهجة محددة دور الجيش العربي في مهمة لا تتجاوز تدمير خطوط السكة الحديد(36)، والمشهد السابق تاريخي خالص لم يمتزج بالسردي فالرواية آلت إلى صفحاتها النهائية التي ستوصل العمل إلى نهاية حتمية ثبّتها التاريخ قبلا مع إبراز لصوت المؤلف على لسان راويه يحلل الأحداث من معرفة سياسية حاضرة لا تتناسب مع المعرفة السياسية لأوضاع التقسيم وقت أحدا ثالعمل· وتتضاعف الأمور تاريخيا ليزداد الخطاب التاريخي سيطرة على مجريات الرواية، ومن ذلك: عندما بدأت عمليات مشاغلة الجيش في عمان تمويها للجمع الأكبر الذي يلتف جامعا البدو والدروز والحوارنة فإن الملاريا انتشرت في عمان تحصد جنود الأتراك الهاربين من الجيش سريعا مرتدين إلى دمشق، ولم تعد طريقهم آمنة إذ راح بدو الرولة وبني حسن يقطعون الدرب أمامهم ويصادرون أسلحتهم تاركينهم عراة ينكصون إلى دمشق··(37)
وإذا ما عدنا إلى ثلاثية غرناطة مجددًا، فقد كانت وتيرة الأحداث فيها تتصاعد وتتأزم نحو نتيجة واحدة وأكيدة بتنا نطلبها كلما توغلنا في القراءة هي قرار الرحيل أو الترحيل وفعلاً وبعد (475) صفحة من المعاناة تخلص الرواية إلى النتيجة الحتمية يكون الترحيل القسري بعد مئة سنة من المعاناة والصبر والكفاح بارداً قاسياً، فجاء القرار متوقعاً بل منتظراً من المتلقي: المقدمة المعتادة عن خيانة عرب البلاد بناء عليه تقرر ترحيلهم في غضون ثلاثة أيام إلى الثغور المحددة والموت عقوبة المخالفين· للراحلين أن يأخذوا من المتاع ما يستطيعون حمله على ظهورهم، وتتكفل السلطات بإطعامهم أثناء السفر، وعلى كل أن يلزم مكانه انتظاراً لنقله إلى الشواطئ ومن يبرح مكانه يتعرض للنهب والمحاكمة، ومن يقاوم يعاقب بالموت· أملاك المرحلين صارت بحكم المرسوم الملكي ملكاً للإقطاعيين، فمن يعمد إلى إخفاء أملاكه أو حرقها يعاقب هو وكل سكان الناحية بالموت··(38)·
لقد وصلت الرواية إلى نهاية محتومة بعد أن تغلبت إيديولوجية القشتاليين ميدانيا على إيديولوجية العرب المسلمين بعد صراع سياسي وعسكري طويل كان لابد للتاريخ من أن يحسمها وبطريقته المباشرة، فكانت نهاية الأحداث متوقعة بل مطلوبة لاستكمال المشهد·