أنت هنا

قراءة كتاب عروس عمان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عروس عمان

عروس عمان

كتاب " عروس عمان " ، تأليف فادي زغموت ، والذي صدر عن دار جبل عمان ناشرون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

حياة : منذ نعومة أظفاري يجذبني الرجال التعساء

لم أستوعب كلمات صاحبة مشغل الخياطة وهي تُسرّ حني من العمل بجفاء وبرودة أعصاب اعتدتُها منها طوال الأشهر القليلة الماضية. نظرتْ إليَّ من فوق إلى تحت ونطقت باستعلاء:

’’ما بشغل بنات وسخات! سمعة المشغِّل من سمعة بناته‘‘.

بصقتُ في وجهها وخرجت، جسمي يرتعش من العصبية. صدمت من قسوتها، وسيطر عليَّ شعورٌ بالظلم والاستغلال، وخوفٌ من المستقبل اعتدته منذ صباي.

سرتُ تحت المطر الشديد في شوارع الصويفية كمومياء مُشقرَّةٍ قادرةٍ فقط على الحركة دون أي نوع من الاستجابة العصبية. تبخَّر راتبي المتواضع كما تبخَّر حلمي بمتابعة دراستي الجامعية، فمن المستحيل الآن تدبير أقساط الجامعة!

صارعتُ بشدة وتحاملتُ على نفسي كثيرًا طوال الأشهر الماضية. صاحبة المشغل باردة المشاعر، قاسية التعابير، تُعاملنا، نحن العاملين عندها، كالعبيد. تستغلُّ ضعفنا وحاجتنا إلى النقود، وتلمِّح بطردنا لأي سبب بسيط مدعية أن هنالك العديد من البنات المستعدات لأن يقمن بالعمل نفسه وبراتب أقلّ.

كان علينا أن نتحمل، فاعتدنا العمل أكثر من ساعات الدوام الرسمية، وفي أيام العطل الأسبوعية والرسمية، وكذلك اعتدنا تلقِّيَ خصومات من الراتب لأتفه الأسباب. كل ذلك بسبب عوزنا وحاجتنا ولعدم توافر عمل أفضل.

أسرعُ الخطوات هربًا من وجه أبي الشامت يصرخ في أذني. كلما أسرعتُ، ارتفعَ صوته:

’’إخوتك أولى بالراتب‘‘!

لا يكفيه المبلغ الذي أساهم به، فيحاول دومًا السيطرة على ما يتبقى لي من راتبي. أحيانًا أشعر بأنه يغار من قدرتي على تدبُّر أموري، في حين يعجز هو عن تأمين أبسط حاجاتنا، فأجده يضع العراقيل أمامي ويختلق المشاكل من تحت الأرض.

يلاحقني في مخيِّلتي في حين أعدو أنا في طريقي نحوه، إلى البيت. أتساءل، ماذا عليَّ أن أفعل؟

أعلم جيدًا أنِّي لن أستطيع مواجهته ولن أستطيع تبرير تركِيَ عملي. سيسأل عن التفاصيل وسيحاول أن يستفسر من صاحبة المشغل. قد يتصل بها ويسألها، وقد يزورها ويرجوها أن تُعيدني.

سأنكر ما ستقوله وأتهمها بالكذب. عليه أن يصدقني لكنِّي لا أضمن ذلك. لربما أخبرت أمي فهي قد تجد لي منفذًا، وأترك الموضوع عدة أيام فلربما وجدتُ عملًا آخر ينقذني من هذه المواجهة مع أبي.

كان عليَّ أن أتوقع أن تصلها أخباري أنا وقيس؛ فالبنات ألسنتهن طويلة وأنا لم أكن بطبعي كتومة، لا سيَّما أنِّي وقعت في حبه بشدة، لذا كنت أجد صعوبة في كتم مشاعري وفي عدم مشاركة صديقاتي في المشغل تفاصيل علاقتنا وتطوراتها.

لم أخبر كل البنات. لا أثق سوى باثنتين منهن: واحدة تدعمني طوال الوقت بينما الأخرى تحذرني. لم يعجبها كون قيس متزوجًا، لم يعجبها فارق السن بيننا، ولم تصدق أنه سيترك زوجته ويخطبني.

أنا لم أكن أصغي إليها ولم تكن تعجبني صراحتها، لا سيَّما حين تقول:

’’حياة، قيس بضحك عليكِ، إنتِ لسَّاتك صغيرة، انتبهي منيح‘‘.

أنا لم أكن صغيرة، فأنا أكثر فهمًا من كثير من البنات في عمري. ربما بسبب طبعي الفضولي ورغبتي الشديدة في التعلم، أو ربما بسبب الأوضاع الصعبة التي مررت بها وأجبرتني على النضج مبكِّرًا.

الحياة هي أقسى معلم لنا؛ لأنها تضعنا أمام الامتحان قبل أن ندرس، فتجبرنا أن نتعلم من أخطائنا وتجاربنا القاسية بدل أن نتعلم من أخطاء الآخرين.

فلتقل ما تريد. فأنا لست ابنة ١٩ سنة عادية. الحياة كانت قاسية عليَّ ولم ترحمني. علمتني الكثير، مع أنِّي كنت دومًا أعاتبها وأقول لها:

’’خفِّي عليّ، فإحنا الثنتين نحمل نفس الاسم‘‘.

حياة، ربما هو اسمي ما يبقيني على قيد الحياة. أردده في نفسي في أحلك اللحظات، فيمدني بالطاقة والإرادة للمُضيِّ قُدُمًا. أريد لنفسي حياة طبيعية كباقي الناس. أريد أن أعيش وأن أحلِّق وأن أمحو الماضي.

حملٌ كبير على ظهري يتعبني ويكبل حركتي، لكنِّي لا أسمح بأن يشلني، ولن أسمح له بذلك.

جلست يومًا باكيةً في أحد شوارع حارتنا، فإذا بفراشة تحط على كتفي. قرأت ’’حياة‘‘ على جناحها ومن يومها وأنا أصرُّ على الحياة والتحليق حتى لو كفراشة مقصوصة الجناح.

غضب مني قيس أول أمس. لم يعد يكتفي بمداعبتي وتقبيلي. أراد أن يدخل فيَّ. قال إنه يريد أن يشعر بعلاقتنا مكتملة، وبأنِّي لست نصفَ حبيبة، بل امرأةٌ كاملةٌ يشاركها كل ما يشارك به زوجته.

طلبت منه أن ينتظر إلى أن يترك زوجته ويتزوجني، فأنا لن أفرط بعذريتي قبل الزواج. لم يعجبه ذلك، فهو- كما يقول- لن يستطيع تركها الآن، ويحتاج إلى عدة شهورٍ لإنهاء الأمور معها.

لم أصدقه، مع أني كنت أتمنى أن تكون ثقتي به أكبر وأن أعطيه نفسي كاملة، لكنِّي لم أستطع. ربما هو صوت صديقتي في المشغل، أو هو صوت المنطق، أو ربما هو غريزة البقاء ما كان يمنعني. لا أعرف. لكنَّ هنالك خطًّا أحمرَ كنت أعرف جيدًا أنه يجب ألَّا أتخطَّاه.

كل علاقتي بقيس لا تبرِّر طردي من شغلي. هذه حياتي وشأني الخاص. ليس من حقِّ هذه السيدة أن تحكمَ عليَّ بهذا الشكل. هي لا تعرف طبيعة علاقتي به، ولا تعرف طبيعة علاقته هو بزوجته. أنا لم أكن لأسمحَ لنفسي بحب رجل متزوج، لكنِّي انجررت إلى حبه من دون وعي أو تفكير في ما قد تؤول إليه هذه العلاقة من تبعات.

احتجت إلى رجل يعيد الأمل إلى حياتي. إلى فارس ينتشلني من بيت أبي ويُتوِّجني ملكةً في بيته.

أنا ومنذ نعومة أظفاري يجذبني الرجال التعساء. لماذا؟ لا أعرف. ربما لأن رسم ابتسامة على وجه أبي كان تحدِّيًا يعصف بي طوال طفولتي؟ أو ربما لأن تعاستي تجدُ رفقةً في تعاسة الآخر، فلا أشعر بالغربة في أحضانه؟

وقيس كان تعيسًا يوم تعرَّفت إليه على الإنترنت. ارتحت له كما لم أرتح لرجل من قبله. سلس الحديث، وقد شرع لي قلبه وحياته. ككتاب مفتوح يقرأ لي منه فقرات متتابعة دون تردد أو كلل.

كان يشعر بالاختناق داخل بيته وفي أحضان زوجته، فيسرع إلى فضاء الإنترنت بحثًا عن طوق نجاة. يبحث عن صديقة يفتح لها قلبه لتُعيدَ إليه ابتسامةً قد يكون نسيها.

هو محق، فالدنيا ترمي في طريقنا أحيانًا أشخاصًا غرباء ليزرعوا فينا ابتسامة لم يعد قادرًا على زرعها أقرب الناس إلينا.

ونحن كنا نزرع الابتسامات على وجوه بعضنا بعضًا بسلاسة جارور حقل اختصر الزمن ليسرِّع من نمو الحب في قلبينا.

أول حب في حياتي كان لرجل متزوج. تعلمت أن أتقبَّل هذه الحقيقة وأعيش معها. أتفهم أحواله وأصدِّق وعوده. أتحمل وأصبر لعل القدر ينصفني ويرسمه لي زوجًا. أعيش على أمل حياة أفضل، فالواقع أقسى من أن أعيشه من دون خيال.

لكنِّي اليوم بلا أمل أو خيال. يغلِّفني السواد بشبكة عنكبوتية يخيطها القدر. تتمايز الخيوط بتناغم لتشلَّ حركتي. خيوط خوف أحدها يقطع شريان الأمان المادِّي، بينما يقطع الآخر شريانَ الأمل في مستقبل أفضل، والثالث يحكم حبكته ليقدمني فريسةً سهلة تحت رحمة أبي.

أمشي في شوارع عمان شاردة الذهن، دون هدى. لم أركب تكسيًا أو سرفيسًا أو باصًا. تحت وقع المطر، قطعت المسافة كلها من الصويفية إلى المدينة الرياضية على الأقدام دون توقف. كأنما ازدياد الألم في قدمي كان يخدر الألم في نفسي. وكأن الأمطار كانت تغسل جروحي وتخدِّرها. تمنيت أن تزداد آلام أقدامي أكثر فأكثر لتقضي على مواجعي، وتمحو من ذهني الخوف من الأيام القادمة- خوفٌ من حياةٍ من دون قيس؛ خوفٌ من مستقبلٍ من غير علم، وخوف من أب يتلهَّف لراتبي آخر الشهر أكثر مني.

الصفحات