كتاب " أنماط الديمقراطية " ، تأليف أرند ليبهارت ، ترجمة
قراءة كتاب أنماط الديمقراطية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الثالث
النموذج التوافقي للديمقراطية
يرى التأويل القائم على الأغلبية للتعريف الأساسي للديمقراطية أنها تعني «حكم الأغلبية من الشعب»، وحسب هذا التأويل فإن على الأغلبية أن تحكم وعلى الأقلية أن تعارض. ويتعارض مع هذه الرؤية النموذج التوافقي للديمقراطية. فكما أشار عالم الاقتصاد، الحائز جائزة نوبل، السير أرثر لويس (1965، 64-65)، إن حكم الأغلبية والنمط السياسي الذي يحمله بين طياته والقائم على وجود حكومة في مواجهة معارضة يمكن النظر إليه باعتباره خلوًا من الديمقراطية نظرًا لأنه مبدأ يقوم على الإقصاء. ويقول لويس إن المعنى الرئيسي للديمقراطية هو أنه «ينبغي على جميع المتأثّرين بقرار معيّن أن تتوفّر لهم فرصة المشاركة في اتخاذ هذا القرار إما بشكل مباشر وإما من خلال ممثّلين مُنتخبَين»، أما معناه الثانوي فهو «وجوب أن تسود إرادة الأغلبية». فإذا كان هذا يعني أن تقوم الأحزاب الفائزة باتخاذ كل القرارات الحكومية وأن على الخاسرين أن ينتقدوا فقط وليس لهم أن يحكموا، والكلام لا يزال لـ «لويس»، فإن المعنيين غير متوافقين: «فاستبعاد الجماعات الخاسرة من المشاركة في صنع القرار أمر ينطوي على انتهاك واضح للمعنى الرئيسي للديمقراطية».
ويحق للمدافعين عن مبدأ الأغلبية الرد بأنه يمكن حل مشكلة عدم التوافق تلك بناءً على شرطين، فبداية، إن استبعاد الأقلية أمر يمكن التخفيف من وطأته إذا تناوبت الأغلبية والأقلية على الحكم - وذلك إذا أصبحت أقلية اليوم أغلبية في الانتخابات التالية، بدلًا من أن يُحكم عليها بالبقاء دائمًا في خانة المعارضة الدائمة. وتلك هي الطريقة التي كانت تعمل بها أنظمة الحكم القائمة على حزبين في نيوزيلندا وبربادوس. بيد أنه كانت هناك حقبات طويلة ظل خلالها أحد الحزبين الرئيسين خارج السلطة: كحزب العمال البريطاني خلال الأعوام الثلاثة عشر الممتدة من عام 1951 إلى 1964 والأعوام الثمانية عشر الممتدة من عام 1979 إلى 1997، وحزب المحافظين البريطاني خلال الأعوام الثلاثة عشر الممتدة من 1997 إلى 2010، والحزب الوطني النيوزيلندي لمدة 14 عامًا من 1935 إلى 1949، وحزب العمال النيوزيلندي لمدة 12 عامًا من 1960 إلى 1972، وحزب العمال الديمقراطي في بربادوس خلال الأربعة عشر عامًا الممتدة من 1994 إلى 2008.
وحتى خلال هذه الحقبات الطويلة من الإقصاء عن السلطة، يمكن للمرء، وبكل معقولية، أن يقول بانعدام التعارض بين الديمقراطية وقاعدة الأغلبية نتيجة لوجود شرط ثان، ألا وهو الحقيقة التي مفادها أن البلدان الثلاثة هي مجتمعات متجانسة نسبيًا وأن لا فروق كبيرة بين الرؤى السياسية لأحزابها الرئيسة نظرًا لميلها إلى البقاء قرب خانة الوسط من المجال السياسي. ومن ثم فإن إقصاء حزب واحد عن السلطة قد لا يكون ديمقراطيًّا من زاوية معيار «حكم الشعب»، ولكن إذا كانت مصالح الناخبين وما يفضلونه تخدمها بشكل معقول سياسات الحزب الآخر في الحكم، فإن النظام يقترب من تعريف الديمقراطية القائم على «الحكم للشعب».
أما في المجتمعات الأقل تجانسًا، فلا ينطبق أي من هذين الشرطين. فالسياسات التي تدافع عنها الأحزاب الرئيسة تتشعب فيما بينها بدرجة أكبر، وتأتي ولاءات الناخبين لتتخذ طابعًا أكثر صرامة على نحو متكرّر، وبما يقلّل من احتمالات تناوب الأحزاب الرئيسية على الحكم. وفي المجتمعات التعدّدية بصفة خاصة - وهي المجتمعات التي تتّسم بوجود انقسامات حادّة داخلها على الصعيد الديني أو الأيديولوجي أو اللغوي أو الثقافي أو العرقي بشكل يجعلها عمليًا مؤلفة من مجتمعات فرعية لكل منها أحزابها السياسية وجماعات الضغط الخاصة بها ووسائطها الخاصة للتواصل - نجد أن المرونة اللازمة لتحقيق الديمقراطية القائمة على الأغلبية غائبة. وفي ظل هذه الظروف، نجد أن حكم الأغلبية لا يكون غير ديمقراطي فحسب، بل يتسم أيضًا بالخطورة، نظرًا لأن الأقلية التي يتم حرمانها بصورة متكررة من الوصول إلى الحكم سوف تشعر بالاستبعاد والتمييز ضدها، وقد تفقد ولاءها للنظام السياسي. فمثلًا، في المجتمع التعدّدي لإيرلندا الشمالية، والمقسّم إلى أغلبية بروتستانتية وأقلية كاثوليكية، نجد أن حكم الأغلبية أدى إلى فوز الحزب الوحدوي الذي يمثل الأغلبية البروتستانتية في كل الانتخابات وتشكيله كل الحكومات خلال الحقبة من عام 1921 إلى 1972. وقد استحالت الاحتجاجات الكاثوليكية الرهيبة في أواخر حقبة الستينيات حربًا أهلية بين البروتستانت والكاثوليك لم يُسيطر عليها إلا بعد تدخّل الجيش البريطاني وفرض الحكم المباشر من لندن.
وفي معظم المجتمعات ذات الانقسامات الداخلية العميقة، على غرار إيرلندا الشمالية، نجد أن حكم الأغلبية يحمل معاني ديكتاتورية الأغلبية والحرب الأهلية أكثر مما يحمل معاني الديمقراطية. إن ما تحتاجه مثل هذه المجتمعات هو نظام ديمقراطي يشدّد على التوافق بدلًا من المعارضة، ويقوم على الاحتواء وليس الاستبعاد، ويحاول توسيع حجم الأغلبية الحاكمة بدلًا من الاكتفاء بالأغلبية الضئيلة: أي ديمقراطية توافقية. وبرغم ميلها إلى مبدأ الأغلبية، أقرّت مجالس الوزراء البريطانية المتعاقبة بهذه الحاجة: حيث أصرت على تحقيق مبدأ التمثيل المتناسب في كل الانتخابات التي تمت في إيرلندا الشمالية (فيما عدا تلك الخاصة بمجلس العموم) على أن تكون قائمة على ائتلافات تقوم على تقاسم السلطة السياسية بين البروتستانت والكاثوليك، وذلك كشرط لإعادة الاستقلال والحكم الذاتي السياسي لإيرلندا الشمالية. ويُعد مبدأ التمثيل المتناسب وتقاسم السلطة من العناصر الرئيسة التي تضمّنها الاتفاق الخاص بإيرلندا الشمالية الذي تم التوصل إليه عام 1998. وبالمثل، يوصي لويس (1965، 51-55، 65-84) وبقوة بنظام التمثيل المتناسب، والائتلافات الاستيعابية، والنظام الفدرالي لكل المجتمعات التعدّدية لغرب أفريقيا. ومن الواضح أن النموذج التوافقي يُعد مناسبًا أيضًا للبلدان الأقل انقسامًا ولكنها تظل غير متجانسة، وأنه بديل معقول وصالح عن نموذج وستمنستر حتى في المجتمعات المتجانسة إلى حدّ ما.
والأمثلة التي استعنت بها هنا لتوضيح النموذج التوافقي هي نماذج سويسرا وبلجيكا والاتحاد الأوروبي - وجميعها كيانات متعدّدة الأعراق. وتُعد سويسرا أفضل مثال: فهي باستثناء واحد فقط تقترب بشكل مثالي من النموذج الصرف. كما نجد في بلجيكا كذلك نموذجًا جيدًا، خاصة بعد أن أصبحت رسميًّا دولة فدرالية في عام 1993؛ ولذا أوليت نمط السياسة البلجيكية اهتمامًا خاصًّا في الفترة الأخيرة. ويُعدّ الاتحاد الأوروبي من المنظمات فوق القومية - أي أنه أكثر من مجرد منظمة دولية - بيد أنه ليس دولة سيادية، أو ليس بعد. وبسبب الوضعية الوسطية للاتحاد الأوروبي، نجد محللي حالة الاتحاد الأوروبي يختلفون حول دراسته كمنظمة دولية أو كدولة فدرالية أولية، بيد أن تلك النظرة إليه باعتباره دولة فدرالية أولية باتت أكثر شيوعًا (هيكس، 1994، 2005). وهذه أيضًا نظرتي: فإذا اعتبرنا الاتحاد الأوروبي دولة فدرالية، نجد أن مؤسساته قريبة بشكل ملحوظ من النموذج التوافقي للديمقراطية. وسأتناول النماذج السويسرية والبلجيكية أولًا، واحدًا بعد الآخر، ثم أتحوّل إلى مثال الاتحاد الأوروبي.