تمثل رواية "القطيعة" للروائي السوري خليل النعيمي مرحلة مغايرة في الرواية العربيّة المعاصرة، لا تكتب للحكي، أو لتصف أو لتسلّي أو لتعظ أو حتّى لتنتقد، بل لتنقض وتهدم وتسعى لتحقيق تغيير جذريّ، وقطيعة مع كلّ ما هو سائد في الرواية والفكر والقيمة والبنية الأدبيّة
You are here
قراءة كتاب القطيعة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
يتناوشه، وهو يهدهد الكلام بالكلام· فلا يتحرك الليل· ولا يتحرك القمر· ولا يخلص الكلام· وتظل الأفرشة، كما كانت دائماً، يخالط بعضها بعضاً: فراشاً لصق فراش! في كل فراش كائنان· لكل كائن جسدان· في كل جسد أربعة أعضاء· أعضاء تتشابك وتتلابك· ويظل هو وحده يعاني الليل، وحيداً· وفجأة يتململ· يقفز· يطير· وتخلو الزاوية من كل شيء: منه، من الصوت الغريب· من الأشجار· والأحجار· والشاي الساخن لم يكن قد أتى بعد· شاي آخر الليل: شاي قبل أن يختفي عباس· وأرى، من قريب ومن بعيد، لمع قدميه يلوّن البر الكالح· يلونه بدوائر حُمْر نارية مثل لهب التنور: دوائر مخروطية عاجلة· تتباعد وتبتعد معاً، وهي تذوب بقسوة في الليل· وفي الليل أخرج ملوماً محسوراً، وأنا أنده: عباس! وَيْنَكْ يا عباس؟ ولا ألقى إلا تكسرات أغنياته المتلاحقة تأتيني هذباً هذبا·
وَهذْباً يختفي عباس· عباس يبحث عن عمل· عن معاش! الحال واقف وماء الخابور ماشٍ· ماء الخابور الذي يجري وحيداً· لا مالك له إلا اللّه وابن جليوي· وبقسوة أصرخ من جديد: عباس! وينك يا عباس!؟ ولا أرى إلا صَفْق أجنحة الطير· طير الليل الخائف الوجعان· أصرخ والبلل يأتيني من الجوف· من الحلق· من العين· عباس لا يزال يبتعد· يبحث عن حياة جديدة· عن عِشْرة جديدة· عن أصحاب جدد· عن أحباب جدد· عن أغنيات جديدة· عباس· عباس! وأحسني، بهدوء كامل، ألتَمُّ بين ذراعين أليفتين: عباس ما هو من رَبْعك· عباس عامل وأنت بالمدرسة· وكالجرذ المذعور انفلت· ألحق عباس المبتعد مع الليل· أحاذي أخاديد الدور الطينية الحائلة: دور غويران العبيط· غويران الذي خَلّه عباس· آه، العالم كله نائم! السكون يملأ القلب ولا أسمع إلا الركض: ركض تنفسي المنهك وأنا أركض باستمرار· أركض مرتجفاً كالمطلوب دماً، وأنا أتلَمَّسُ الحيطان: عباس! وينك يا عباس!؟ عباس لا ينام· عباس لا ينتظر· لا يقعد· ولا يقوم! ومثله أروح وأجيء· ومعي، يروح القمر ويجيء· وكما غاب عباس فجأة وذاب، يذوب القمر، فجأة، ويغيب· يغيب، ويدعني مع الظلام وحيداً وحيداً· وبغيابه تستحيل الحيطان ظلالا سوداً يابسة هابطة من السماء· تغيب الانعكاسات الباهتة التي كانت تنتشر في الفضاء، أيضاً· ومن عمق الليل إلى عمقه، لا يبقى حولي إلا الكلام: جيت؟! ما قلت لك عباس راح· عباس عامل يُدوِّر على عيشه، وأنت بالمدرسة· آني بالمدرسة؟ مدرسة ابن جليوي· مدرسة ابن الكلب· مدرسة الماء الموحل والظمآن· ماء الخابور القاحل· خابور الورادات اللواتي لا هَمَّ لهن إلا حَكّ أطيازهن على التراب، وربط بطونهن بالأحزمة الملونة المجدولة· واللواتي على أكتافهن ترتكز بعناية، قواديس الريّ الفضية، ذات الحواف المدورة، المحشوة دائماً بالماء· الورادات الشبقات الأمارات النفس بالسوء· المالئات الفضاء بسيلاناتهن الزنخة، المكروفة من بعيد - سيلانات العرق اللاذع والحماض - وبلزوجات إفرازاتهن الغامضة، المنبثقة من أسفل والسالكة الفخذين حتى الرغام· تلك اللزوجات التي كنتُ أتمنى لحسها لحساً· لحساً·