هذه "صرخة" مها القصراوي في عالم الصمت المريب، عالم عنفه صمت، وصخبه صمت، وتواطؤه صمت، والحركة الموارة فيه صمت.
You are here
قراءة كتاب صرخة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
حين أنتظر طلتها في الكافتيريا ··· أكون على موعد مع وطن أراه في عينيها وكلماتها وحديثها ··· شعرها ذيل الفرس ··· عشت الوطن والأرض في خطوتها وأحلامها ··· حدثتني عن مدينتها ··· جبل النار ··· رائحة القهوة والهيل والبهارات ··· السوق القديم ··· آثارها الممتدة عبر التاريخ ··· منازلها القديمة ··· السفوح وزهور الربيع ··· أجمل المدن في الربيع ···
في مرة سألتها ··· لماذا تركتها وأنت مسكونة بها الى هذا الحد؟ ···
قالت : إنها رغبة والدها في الخروج والدراسة في الخارج للخبرة والمعرفة ···
كنت أتجنب النظر في عينيها ··· أشعر بالخوف يزلزل أحشائي ··· ونشوة تبعث الخدر في أطرافي ··· إنها ليلى ··· كنت أخاف اللحظة التي أفكر فيها إذا فقدتها ··· إنها الحياة والوطن ··· وجدته فيها ··· هل سأفقده للمرة الثانية؟ ···
في يوم لمست شعرها الخيلي بيدي ··· قلت لها : لماذا لا تتركين هذا الشلال ينسدل ويجري؟ ···
ردت ضاحكة : وإذا انسدل هل تسميني الفرس؟···
لازمتها في الجامعة كظلها ··· لازمتني كظلي ··· حلمنا بالوطن ··· وبأطفال نزرع جذورهم في الأرض ···
قلت لها : أريد أن يكون لهم تاريخ وجذور وماض وذكريات ··· أنا من جيل يشبه راقصة على السلم· لم نبق تحت ولا وصلنا الى الأعلى ··· وظل السلم أرجوحتنا ··· يطوح فينا يمينـاً وشمالاً···
سألتني شهد عن طفولتي والماضي ··· ضحكت وقلت لها : ولدت في المنفى ··· لم أر في طفولتي سوى الشوارع والبنايات ··· لم أر شجراً وزهراً وجبلاً ··· كل ما رأيته كان رملاً وصحراء ··· لم أر شجرة ثمار في طفولتي ··· إنه المنفى ··· تجرعته وشربت غربته حتى الثمالة ··· وأنا في رحم أمي ··· وجاء اليتم ··· عشت حالة فقْد طويلة ··· فقْد من المهد ··· فهل سيظل يلازمني الى اللحد···
أيتها الشهد ··· أنت جسري ··· بوابة العبور الى وطني ··· علقيني شعرة في ذيل الفرس··· ضاع الشهد ، وفقدت الجسر والبوابة ··· غابت مدينتي وشجرها وزهرها وسوقها ومبانيها القديمة وقهوتها وسفوحها وسهولها وربيعها ··· بقيت وحيداً في خريف كئيب ··· أتجرع الماضي والذكريات ··· لم يبق من حلمي إلا ذكريات أجترها ··· تحول الشهد إلى علقم ··· أمضغه··· أبتلعه··· حتى انتفخت الذاكرة ···
تخرجت من الجامعة ، وكانت شهد تنهي السنة النهائية··· لم يمهلني القدر ولم تمهلني الزنزانة ··· اعتقلت ··· سجنت أربع سنوات ··· ضاعت شهد واختفت ··· تحطم الجسر··· لم يولد أطفالي ···
َمنْ غرس أرضك أيتها الشهد الجميلة النائمة في حضن الليل ··· ارخي شعرك على سفح الجبل ··· لم يعد الفرس حاضراً···
أناجيك في عتم الليل ··· ضاع الحلم ··· بقيت مكوّماً في زاوية الزنزانة ··· أتامل ظلالها في الفراغ ··· تبعثر الجسر ··· ماتت أمي بعد اعتقالي ··· كنت أملها وحلمها الوحيد بعد أن ضحت بأجمل سنوات العمر من أجلي ومن أجل أختي ··· عاشت من أجلنا وماتت بسببي ··· كنت سبباً في موتها ··· من كان سبباً في موت الأرض··· ضاع الوطن··· والجذور··· والشهد ··· والجسر ··· وبوابة العبور··· وأمي ··· والنفق طويل مظلم لا شمعة تنيره ··· لا عاصفة تسقط أرجوحة السلم ·
هـل تعلمين يا شهد أي ذنب ارتكبـته حيـن اعتقـلت··· ذنبي أنني آمنـت بحق العـودة إلى أرضي ··· قلت إنني منبت لا جذور لي ··· عقدي النفسية تراكمت في المنفى ··· لقد حان وقت العودة ··· هذه جريمـة استحق عليـها الإعدام ··· لا حق لي بالقول أو الفعل ··· يجب أن أدجّن في أي مجتمع وجدت فيه ··· شئت أم أبيت ··· عليك أن تخضع ··· تستكين ··· وإلا تصبح مارقاً ··· زنديقاً ··· تعيث في الأرض فساداً ·
خرجت من المقهى ··· شوارع يتيه فيها المرء ··· وهج الشمس والحرارة تلسع رأسي··· أمشي مهرولاً ··· هارباً ··· أبحث عن ظل ··· أبراج تطاول في ارتفاعها السماء···
غربة في الوجوه ··· أشكال مختلفة لكل شيء ··· وصلت إلى البناية التي أسكن فيها ··· دائماً أشعر بقشعريرة تسري من قمة رأسي الى أخمص قدمي ، وأنا انتقل من حالة الى حالة دون سابق إنذار ··· لا حلول وسطاً في هذه المدينة ··· الحر والبرد في آن ···
انتظرت قليلاً ··· جاء المصعد ··· صعدت مع امرأة أراها كثيراً وبصور شتى ··· النساء تتلون ··· تتشكل مع معطيات اللحظة الراهنة··· أراها الآن امرأة ··· عينيها موت وجنون ··· غربة واحتراق ··· امرأة تخترق نظرتها من في محيطها··· في كل مرة نلتقي صدفة··· تخترقني··· أهرب من عينيها·· أخاف ··· ترتعد أحشائي وأطرافي ··· احتمي في زاوية المصعد ···
قالوا لي: إن النساء في هذه المدينة شر مرعب··· ابتعد عنه ··· اللحم تجده في الطرقات ····