في كتاب "هندسة اقل·· خرائط اقل"؛ ثمة كائنات بشرية لفرط سكونيتها وعاداتها وحياديتها، تبدو غير ملحوظة، غير مرئية، يعبر المرء أمامها فلا تلفت انتباهه، لا تثير فضوله بالأحرى، لا يشعر بوجودها· تبدو كما لو أنها محجبة، أو أنها تتحصن خلف قناع· وهذا الكتاب يحتوي على
قراءة كتاب هندسة أقل.. خرائط أقل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
أن ترى، أن تكون مرئياً
النظرات كلمات غير منطوقة، اتصال خاص وحميم، بوح معلن أو خفي، خطاب متبادل بلغة الصمت أوان تعطل لغة الكلام·
النظرات، بما تحمله من دلالات وإشارات ومعان، تكون قابلة للترجمة أو التأويل وفق علاقة الرائي بالمنظور، أو وفق طبيعة اللحظة بما توحي (أو تصرّح) به من انفعالات ومشاعر·
إن قراءة عمق النظرة أو سطحها، غموضها أو وضوحها، تفرضها وتحدّدها الاستجابة الفورية لتحديقة الآخر فينا، وهذه القراءة لا تخلو من التباس وارتباك وسوء فهم عندما تكون العلاقة حديثة العهد، أو غير مستقرة، أو مشوبة بالحذر والارتياب، أو رهينة توترات·
العلاقة بين الرائي والمرئي تجد تعبيرها في حالات مختلفة ومتعددة: فحص، سبر، بحث، استجواب، تيقّن، تحكّم· وفي أغلب الأحوال تكون الرؤية مقترنة بعاطفة ما، شعور ما·· فأن ترى يعني أن تشعر· وبذلك فإن الرؤية مرتبطة بالاتصال، بالاعتناق العاطفي، بالتفاعل·
أحياناً يكون بصرك مركّزاً ظاهرياً على مجال بصري معين لكن انتباهك وتفكيرك موجهان نحو مكان آخر أو زمان آخر، نحو صورة أو حدث يدور في ذهنك فقط، عندئذ لا تشعر بصلة أو ارتباط بالمنظور·· لأنك في الواقع لا تراه· وهنا يبرز الفارق الجوهري بين النظر والرؤية، والذي يتحدّد بدرجة الشعور·
النظرات ذات صياغات متعددة فهي: ودودة، مُحبّة، عدوانية، شهوانية، مغوية، حيادية، منحازة، متحدية، مرتبكة، مستعطفة، وقحة، مجفلة، مرعبة، مختلسة، خائفة، مباشرة·· الخ·
من يحدّق يمارس سلطة وهيمنة على المرئي·
عندما تكون في بؤرة التحديق، تشعر بالقلق والارتباك، وبأنك بلا حصانة أو دفاع، وعرضة للانتهاك والاستباحة·· ذلك لأنك تتحوّل ـ بفعل التحديق ـ من كائن خفي ومقنّع ومستتر إلى مشهد عام مكشوف ومباح·· تصبح في محور الفضول والفحص والاستجواب·
لكن ثمة من يقبل هذا الدور ويتوق إليه·· أي أن يتحوّل إلى مشهد، منظر، شيء مباح للامتلاك بالنظر: المرأة الجميلة، نجوم السينما والمسرح، الرياضيون، المشاهير في مجالات مختلفة·· وآخرون·
هؤلاء يجدون متعتهم في إحراز الإعجاب والثناء، في الكشف عن مظاهر التفوّق والسموّ، في إشباع حاجات ورغبات داخلية·· مع ذلك، يشعرون بارتياح أكبر عندما يكون التحديق عاماً ومجهولاً وغير مباشر، لأنهم ـ وقتذاك ـ يصبحون خارج التحكم والسيطرة والانتهاك التي تفرضها التحديقة المباشرة والخاصة·
التحديق المضاد تعبير عن التحدي· منازلة خرساء، الغلبة فيها لمن لا تطرف عينه، لمن لا يشيح بوجهه· هو أيضاً وسيلة دفاعية· عندما يخرج الرجل مع زوجته في مكان عام فإنه يوجّه، بدافع الغيرة، نظرات عدوانية وعنيفة إلى كل من يحدّق في زوجته· وهو لا يحاول أن يصد نظرات الآخرين، المنتهكة، فحسب، بل يريد أيضاً فرض سيطرته على الآخرين وجعلهم يمتثلون لرغبته في إبعادهم· إنه يجابه التحديق بتحديق أشد·· بهذه الطريقة وحدها يظن أنه سوف يصون ما يملك·
عندما تبيح نفسك للنظر فإنك تمارس في الوقت ذاته مراقبة نفسك، وتخضعها طوعاً للتقييم المزدوج· إنك تبحث عن انعكاس ذاتك في عين الآخر· تريد أن تعرف كيف تبدو، أن تطمئن على شكلك ومظهرك· في غياب الآخر، يمكن الاستعاضة عنه بالمرآة حيث النظرة الذاتية ترتد من السطح العاكس لتخترق ذاتك، وعندها تمارس فعل التقييم وحدك·· أي تصبح رائياً ومرئياً في آن· النظر، إذن، طريقة بها تؤسس علاقتك بالآخر وبالذات·