في رواية «وجهة البوصلة» لنورة الغامدي، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2002، تبرز صيغ عدة للعلاقة المأزومة بين المرأة المثقفة والرجل.
You are here
قراءة كتاب وجهة البوصلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
2
رجلٌ قال هذا·· والحنجرة التي تلغّم صدري كل مساء بما لا يمكن التنبؤ به تُعيده لذاكرتي··
عمي الذي بكى ذات ليلة في قلب الجد الكبير في ليلة صيف حار، يومها أمسك بيد الطبيب وهو يجر صوته من حبال·· استغلقت وترهلت··
* هذا كثير··
الوحيدة التي شهدت بكاءه أنا والطبيب ودمه الذي سال من بين فخذيه·· حافراً في تراب الجد الكبير حفرة عميقة من دم أسود··
أوجعتني ذاكرتي··
··على الطرف الآخر من الهاتف لم يسمعني·· حين رفعت يدي صوب الله·· سيدي·· أتمنى أن لا أشهد يوماً أراه فيه يبكي، نعم لم يسمعني، ولم تشعر بي حتى حنجرته التي تلحفني، وتأخذني في دوامات لا تهدأ ولا ترحم من رغبات محمومة تشبه تلك التي أراقت دم عمي الشيخ وهو في عامه السابع والستين تحت جناح السرية والكتمان·· وهو شيخ بعمر الزمان وحتى تلك اللحظة السرية التي شهدتها لم أستطع أن أحدد له عمراً معيناً أو زماناً محدداً·· كان هو الزمان والمكان·· حين بكى لحظة لمع النصل في يد الطبيب·· نهتة تشبه نفرة الموت الأولى·· فالموت عادة يزور البشر بغتة، وأحياناً ينذرهم بعلّة يأتي متعللاً بها، أما عبد الرحيم السبتي فقد تشاور معه أياماً وليالي وأشهراً طوالاً واستضافه وأرقده بين فخذيه، وأشهده على دمه المهدر في حفرة عميقة وسط الوادي العظيم الذي أهداه صفته الأزلية·· شيخ بعمر الزمان·· نشأ فجأة كبيراً هرماً، ويوم دخله عنفوان الشباب مات الوادي·· يشبه عمي·· الذي تفرع نسله فلم تعد وجهته واحدة، لكن حبه واحد وعطاءه عادل·
السبتي علّمنا أن الوادي العظيم يسير من بلاد اليمن حتى يغور في الأرض السبخة قال:
هذا الجد ينحدر من القمم في اليمن السعيد، وعسير العسير، ويرتاح هنا، لكنه في هدأته يكون قد تملكه الغضب، فيأكل نصف مزارعنا، ويعطينا الرواء·· ويمارس سلطته الأكثر عنفاً، فيعزل القرى عن بعضها، ويعيدنا إلى الله ··· وهذا الجد يعلّمنا في كل عام دعاءً جديداً للرجاء والخضوع· ومات السبتي وما أكمل لنا سيرة الجد العظيم··
وتركنا نحن الأبناء ننقب، وأدركنا أن هناك عداءً خفياً بين السبتي والوادي العظيم· فهو يوم قدم من جبال السراة اعترضه الجد الكبير، ونهب نصف ماله ونصف عبيده، وابتلع أمه المريضة· السبتي أقسم أن لا يردد دعاء الرجاء والخضوع قال: قد سامحت الجد الكبير في مالي وعبيدي، لكني سأظل ألعنه لأنه حرم العجوز التي أنجبتني من أن يكون لها قبر معلوم·
أنزل مطاياه وأبقاره المتبقية على ضفة الجد العظيم الغربية، وسور مكانه بالنخل والأثل فوق أكمة تكشف له بريق صفحة الجد العظيم حين يُقبل مع السحر في هدير يوقظ القرى الهاجعة بعد أيام طويلة من الأمطار المتصلة··
* في الليل نسمع أخباراً أخرى عن الجد العظيم من فم بركة ابنة ابن عم السبتي تعقب حكايا جميلة·· تتسلل إلى حيث البسط الممددة والوسائد المتبعثرة تفرق بيد صلبة بين الصبيان والبنات·
* عيب·· تعال هنا·· وأنت ادخلي بين البنات، تهتز الكينا·· حين تضطرب نسمة ليل جنوبية تحرك أغصان التوت الواقفة بين المسجد وباحات المنزل الواسعة حيث يتراص الأطفال والنساء الحوامل بحثاً عن هواء يرطب الجلود الجافة·
يتشعب نظر بركة نحو السماء، ونحو الوادي، وصوب فضة التي تحك رأسها الأجعد قائلة:
* الجد العظيم هو البرزخ
* وما البرزخ يا عمة ؟·
* ······
* ······
حركة جميلة تخرس الجميع فيعود صوتها··