رواية "أطراس الكلام"؛ مفارقة ليست وليدة اللحظة بالتأكيد فها انذا اتذكر جولاتنا الطويلة في شوارع بغداد، عقب انتهاء عاصفة الصحراء واعلان وقف اطلاق النار ، بأدق تفاصيلها .
You are here
قراءة كتاب أطراس الكلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 8
كنتُ أدعها لأوهامها بطبيعة الحال، مستمتعًا ـ أنا الذي حرمتُ من العلاقات العاطفية في مراهقتي بسبب تحكّم أبي في أدق أموري ـ بنظرات الحسد التي يرمقني بها الشباب في الشوارع والأسواق وهم يرون حسناء فاتنة بهذا المستوى من الجمال والأناقة متعلقة بذراعي، غير متنبه إلى أن الأيام والأشهر والسنوات التي لا تكف عن التعاقب ستزيد من تعقيد اقتران أحدنا بالآخر؛ فها نحن اليوم نفترق متخاصمين شأن الأعداء لا المحبّــين!
أوقفتُ سيارة أجرة بعد ما يئستُ من وصول إحدى الحافلات·
- كراج النهضة·
أعطيتُ السائق العنوان وقد جلستُ بجانبه، متأملاً بناية دائرتي وهي تتراجع على صفحة المرآة الجانبية لتختفي وراء عشرات البنايات التي لا تكف بدورها عن التراجع بسرعة خارقة·
إنها تقبع ورائي هناك، في إحدى غرف تلك البناية، قرب شجيرة الظل بطيئة النمو، تتأمل وجهها في مرآتها الصغيرة، واضعة آخر اللمسات على زينتها، في حين تقبع أمامي، على بعد مئات الكيلومترات، فاجعة لن تستطيع زينة الدنيا كلها التخفيف من بشاعتها··· مفارقة ليستْ وليدة اللحظة بالتأكيد؛ فها أنذا أتذكر جولاتنا الطويلة في شوارع بغـداد، عقب انتهاء (عاصفة الصحراء) وإعلان وقف إطلاق النار، بأدق تفاصيلها· كنت كمن يتلمس بأنامل راجفة جسده بعد نجاته من زلزال مدمر قلب الدنيا رأسًا على عقب، بحثًا عن أي جرح أو نزف فاته التنبه إليه في ذروة الفاجعة· كانت كل عمارة مصابة بقذيفة··· وكل نصب تذكاري شوهته الشظايا··· كل جدار مال على جنبه متهدمًا··· كل سقف انبطح ملتصقًا بالأرض، كل منشأة صناعية عطلت عن أداء مهمتها··· كان كل ما خلّفته الحرب وراءها من دمار في كل حيّ من أحياء بغداد ـ سواء في (الكاظميّة) أم (الأعظميّة) أم (الوزيريّة) أم (باب المعظّم) أم (السنك) أم (الباب الشرقي)·· ـ كان جرحًا ينزف ملء روحي··· لم أكن أبكي بطبيعة الحال، إنما أشعر بأن ما يجري في عروقي محض دموع لا دماء·· وكانت أسماء تشاركني في تألمي دون شـك، يحمر أنفها المرهف انفعالاً، وتترقرق الدموع في عينيها السوداوين، لكنها لم تفتها ملاحظة الأزياء الجديدة وهي تزهو على أجساد (المانيكانات) المنتصبة برشاقة خلف الواجهات الزجاجية، كنت على ثقة من أن سائق أبيها سيمر، بعد يوم أو يومين، على تلك المحلات ليقتني لها ما أثار إعجابها!
لم أجد ضيرًا في ذلك لولا ما حصل لحظة وقفنا قرب (جسر الجمهورية)، هذا الجسر الذي كان يشغل موضعًا أثيرًا لدينا نحن الاثنين ولاسيما في الأشهر الأولى لغرامنا؛ فما أكثر ما اجتزناه نحو (الكرخ) أو (الرصافة) متشابكي اليدن، وما أكثر ما اتكأنا على سياجه مراقبين النوارس وهي تحلّق في سماء دجلة الخالد تاركة الجرفين يرددان أصداء صرخاتها الحادة، وما أكثر ما تأملنا من فوقه (نصب الحرية) الذي جعله (جواد سليم) على شكل لافتة عملاقة تعلو رؤوس الحشود في الأسفل، ملخّصة نضال العراقيين ضدّ الغزاة والمحتلّين على امتداد الزمن·
كان الجسر قد انقصم من منتصفه· كان الموضع الذي اعتاد قلبانا النبض فوقه محض فراغ··· كان ماضي غرامنا كله هناك منكس الرأس، تعبث الأمواج بجرحه دون اكتراث!
في تلك اللحظة تنبهتُ إلى أسـماء وهي تكلّمني، وحين استوضحتُ منها الأمر، سألتني بمنتهى الجدية إن كان في وسعي العثور على مصوّر ليلتقط لنا صورة تذكارية يشكّل الجسر المنهار خلفيتها؟!
تأمّلتها لحظات قبل أن أجيبها:
- سأجد لك ذلك المصور ولكن ليس الآن··· بل حين يربط الجسر (الرصافة) بـ (الكرخ) من جديد!