كان أول ما كتبت، في بداية حياتي الأدبية، مقال عنوانه "فدوى طوقان ومشكلة الموت" نشرته لي مجلة الأفق الجديد، في عدد أيلول سنة 1961م، وكانت مجلة أدبية طامحة تصدر في القدس، وبعد ذلك نشرت لي مجلة أفكار الصادرة في عمّان مقالاً بعنوان "الحنين في الشعر العربي الحدي
You are here
قراءة كتاب صخر وحفنة من تراب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
الإبداع الأدبي، بل هي أشد الأشياء منافاة لما يحتاجه العالم العربي من حرية التحرك لحل الأزمة، لكي يكون للعرب بعد ذلك حياة
سوية لا تهدر إمكاناتها صراعاتٌ جانبية.
ومع هذا فإن المرء ليعجب بما حققه الشعر العربي الحديث من إبداع ولا سيما في الخمسينات والستينات من هذا القرن. ولعلّ الشعر
العربي الحديث أكثرُ وجوه الحياة العربية الحديثة إشراقاً، إذ استطاع أن يرتفع إلى مستوى حاجات العصر من توليفٍ بين القديم
والجديد واستشرافٍ لآفاق المستقبل، تحقيقاً للحداثة في الشعر ودعوةً لحداثة في سائر وجوه الحياة العربية. لكن الحياة العربية لم تسرْ
في ركاب هذه الانطلاقة التي قادها الشعراء الجدد، وتألبت عليها قوى رجعية في داخل المجتمع العربي وأخرى خارجه، غايتها الإبقاء
على العرب في قيد التبعية لنظام عالمي تهيمن هي عليه في الاقتصاد والسياسة. فاحتدمت صراعات داخل العالم العربي أدت إلى هذه
الأزمة العامة التي يعانيها اليوم، وليست أزمة الشعر إلا ناحية منها.
ذلك أن الشعراء الجدد منذ منتصف هذا القرن استنفدوا جهودهم وما زال بعضهم يكرّر نفسه، وبعد أن أسكت الموت بعضهم أو أسكتتهم
قوى البطش والقمع، وبعد أن ابتعد بعضهم إلى المهاجر في الخارج أو أبعدتهم السلطات في وظائف حكومية أو في منافي القهر.
وسارت الحياة العربية في تخبّط تتلقّى الهزائم العسكرية والسياسية واحدة تلو الأخرى، فتحاول الأمة أن تتماسك لتدفع عنها المزيد من
الانهيار، لكنها تُمنى بالفشل لأن القوى إياها واقفة لها بالمرصاد، ضربة تلو أخرى.
ولما كنّا قد تعوّدنا أن يكون شعراؤنا هم الناطقين باسمنا الجماعي فيما هم يعبّرون عن ذواتهم الفردية، تطلّعنا إليهم (وما زلنا)، وإذا هم
في كل وادٍ يهيمون، قد أخذت الأزمة بتلابيب قلوبهم وأفكارهم وسدّت عليهم السبل، ولم يكن بينهم من يجترح لنا معجزات الإبداع التي
عهدناها في الخمسينات والستينات، فتعالت أصواتنا بأن الشعر العربي الحديث في أزمة. والحق أن العرب كلهم في أزمة، والحق أيضاً
أننا يجب ألا ننتظر من شعرائنا أكثر مما تنتظر الأمم الأخرى من شعرائها. فلْتوضعِ الأمور في مقاييسها النسبية الصحيحة، ولنعرفْ
أنه لا ينبغ في الأمة شاعر كل يوم، وأنه إذا نبغ ففعله محدود وأثره مرهون بأحوال الأمة جمعاء.
أما السبيل إلى الخلاص من الأزمة العامة التي تعاني منها الأمة العربية فهو بيت القصيد، وهو سبيل طويل يجب على الشعراء وغير
الشعراء من العرب أن يجاهدوا فيه إلى أن يقهروا القوى الداخلية والخارجية التي تمنعهم من الانطلاق لتحقيق ذواتهم وأماني أمتهم.