البلاغة هي تأدية المعنى جلياً واضحاً بعبارة فصيحة بليغة لها في النفس أثر خلاق مع ملاءمة كل كلام بالموطن الذي يقال فيه والأشخاص الذين يخاطبون به، فالبلاغة هي فن من الفنون يعتمد على صفاء الاستعداد الفطري ودقة إدراك الجمال وتبيين الفروق الخفية بين صنوف الأسالي
You are here
قراءة كتاب مذكرة - البيان النبوي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بلاغة الرسول "ص " وبيانه
كان محمد صلى الله عليه وسلم آية في فصاحة القول وسمو البيان بل كان أبلغ العرب قاطبة وهذه قصية لم تكن في يوم من الأيام موضع ارتياب من منصف قديم أو حديث صديق أو عدو، وقد كانت هذه البلاغة العالية أثراً طبيعياً لأسباب توفرت لها ونتيجة حتمية أدت إليها، فالنبي صلى الله عليه وسلم عربي وهو من خير العرب قبيلة، وفي أعلاهم نسباً ومن أعظمهم بيتاً، فالعرب سادة الأمم وقريش سادة العرب، وبنو هاشم سادة قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد بن هشام بل هو سيد الأولين والآخرين.
ومن مظاهر سيادة قريش أنها كانت أفصح قبائل العرب لهجة وأصفاها بياناً وأعذبها منطقاً وأقواها لساناً، وقد تهيأ للغة القرشية قبل الإسلام من عوامل النقاء والصفاء والفصاحة والبيان ما جعلها جديرة بأن يتنزل بها القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي تحدى العرب ببلاغته وفصاحته ورائع الفاظه وبارع تراكيبه وسمو معانيه، وكانت العرب تفد إلى مكة. للحج ويقصدون الأسواق العربية فيها للتجارة والمفاخرة والمنازرة وينشد شعراؤهم ما تجود به قرائهم الوقادة ويلغي خطباؤهم وحكماؤهم ما تتفتح عنهم أذهانهم الصافية، وكان القرشيون يمرون بالقبائل العربية قاصدين اليمن في رحلة الشتاء أو آتين من الشمال في رحلة الصيف، وفي كل لقاء من هذه اللقاءات التجارية كانوا يأخذون عن فصحاء العرب أحسن الألفاظ وينتقون أطايب اللغات ويدخلون ما يختارون في لغتهم، وهم في ذلك حريصين كل الحرص ألا يدخل في لغتهم شيء من هنات (عيوب) لغات بعض القبائل، فقد شهدت بعض اللغات بلاغة بعض عيوب اللسان، وكان من الطبيعي أن ينفر القرشيون من إدخال شيء من هذه العيوب شأن الحاذق اليقظ إذا تخير اصطفى، ولم يكد يقترب ميلاد الإسلام حتى كانت اللغة القرشية سيدة اللغات بلاغة وفصاحة وهذا مصداق قوله تعالي في شأن القرآن: (وأنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) الشعراء.
ومن المؤكد أن القرآن نزل جله بلغة قريش، وقد وصف الله سبحانه وتعالى قرشياً باللدد في الخصومة فقال تعالى (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً).
وأكد هذا المعنى في قوله تعالى : (وقالوا إلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ) الزخرف (5)، فوضعهم بالجدل والخصومة الشديدة واللدد (المبالغة في الخصومة) كلها تعني زراية اللسان و وتصاعد البيان والقدرة على تصريف القول وتشقيقه والذهاب به كل مذهب عند الحاجة.
وبين هذه القبائل القرشية المستقرة في بطحاء مكة بين هؤلاء القوم الذين عرفوا والفصاحة عاش محمد بن عبد الله طفولته الثانية وشبابه وكهولته، أما طفولته الأولى فقد قضاها في ربوع قبيلة بني سعد إذا سعدت به هذه القبيلة خمس سنوات من عمره المبارك بعد ولادته مباشرة وقد شرف صلوات الله عليه وسلامه فيما شرف الفصاحة الصافية من فصحاء هذه القبيلة، وقبيلة بني سعد من القبائل التي كانت تسكن سرة الجزيرة العربية وبذلك ظلت لغتها خالصة لم تشبها شائبة ولم يدخل عليها ضيم كما حدث للغات القبائل التي كان موطنها في إطراق الجزيرة العربية حيث اصاب لغاتها بعض الوهن نتيجة لاختلاط لغاتها بالروم في الشام أو بالفرس في العراق أو بالقبط في مصر، وقد ذكر بعض العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم (لأن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف) أنها سبع لغات لسبع قبائل وعد منها قبيلة بني سعد وهي وثلاث قبائل تجاورها تسمى عليا هوزان وفيهم يقول ابو عمرو بن العلاء العالم اللغوي المشهور وصاحب القراءة المشهورة.
أفصح القبائل عليا هوزان و سفلى تميم ويريد بسفلى تميم بنو ورام وهم قوم الفرزدق والذي قيل فيه لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة.
ويصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأثر نسبة في قريش واسترضاعه من بني سعد (أنا اعربكم أنا في قريش أنا من قريش ولساني لسان سعد بن بكر) هذا واشتهر بين الناس حديث ينسب اليه صلى اله عليه وسلم : أنا أفصح العرب يبد انى من قريش واستعرضت في بني سعد بن بكر إلا أن حديثاً آخر ورد في الصحيحين يقول فيه (ص) أنا أفصح من نطق بالضاد يبدأ أنى من قريش.
أما السر الأعظم في بلاغة الرسول (ص) فهو التدبير الآلهي لأن يكون محمد أفصح العرب ودليل ذلك قوله تعالى: وانزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً.
فقد امتن الله سبحانه وتعالى على رسوله (ص) بأنه انزل عليه الكتاب والحكمة وأنه علمه علوماً لم يكن يدري عنها شيئاً، والله سبحانه وتعالى إنما يمنن بجلاله النعم، فلا شك أن ما تدل عليه هذه الآية إن الله عز وجل الهم رسوله صلى الله عليه وسلم روائع البيان وخصه بالمثل الأعلى بفصاحة اللسان، وفي قوله تعالى واعلمك ما لم تكن تعلم دليل على سمو بلاغة النبي (ص) ذلك إن الله امنن عليه علمه ما لكن يعلم وبأن فضله عليه عظيم فلا جرم أن يكون الرسول (ص) في الفصاحة مثلاً، يحتذى بين قوم يقدسون البيان بينما كان مثالاً يحتذي في مكارم الأخلاق، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن على رسوله إلا بالفضائل الكبرى ولا يصف فضله بأن عظيم حتى يكون في ذلك تميز له على قومه بفصاحة اللسان وقوة البيان وربما أشارت إلى ذلك أيضاً الآية الكريمة ولسوف يعطيك فترضى فهي لم تذكر ما يعطيه الله لرسوله أي أن المفعول الثاني للفعل يعطى قد حذف وحذف المفعول يؤذن بالعموم فلا شك أن ما أعطاه الله لرسوله فرض هو البيان، ولا يكون الرضا حتى يكون متفوقاً على غيره من فصحاء العرب" والبيان فضيلة في كل بيئة وفي كل زمان ومكان، وهو عند العرب في حياة النبي وقبلها فضيلة الفضائل فبديهي أن الله سبحانه وتعالى أعطى رسوله هذه الفضيلة وأعطاها على أتم ما يكون مما يدل على ذلك أيضاً ما ورد في الآية الكريمة فاعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً قيل في تفسيرها أي قل لهم في شأن أنفسهم أي بأن تذكر لهم في شأنها وما تنطوي عليه سرائر . وأن هذه السرائر ليست خيراً لهم في دنياهم ولا في دينهم وقبل المعنى قولاً بليغاً في أنفسهم أي يغوص فيها ويبلغ غاية المراد منها، وقبل أن المراد بالقول البليغ أن يكون الوعظ بالكلام البليغ، ولكن المعاني تؤكد ما يقوله الرسول (ص) يتسم بالبلاغة ويمتاز بها، وقال الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار وفي الآية شهادة للنبي (ص) بالقدرة على الكلام البليغ وهي شهادة له بالحكمة وفضل الخطاب، وما أوتى من فضيلة إلا أوتى مثلها خاتم النبيين وشهادة الله له في هذا المقام أكبر شهادة وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر النبيين، قال تعالى (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذين اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ولا يمكن أن يقوم الرسول (ص) بهذا التكليف الشاق وأن يؤدي على أكمل هذه المهام المتعددة إلا إذا كان غاية في البيان ومثلاً عالياً في الفصاحة كما لا بد له أن يكون له امتياز على أولئك الفصحاء الأنبياء حتى يظهر فضله عليهم وتعظم مكانته بينهم.
والبيان كما هو معروف موضع فخرهم وأنبل فضائلهم فلا بد أن يكون الرسول فيه أعلى وعلماً مفرداً، ولكن حجة موسى عليه السلام التي طلب بها من الله سبحانه وتعالى أن يرسل معه أخاه هرون وزيراً لأن هرون كان أفصح منه لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني أني أخاف أن يكذبون فرد عليه تعالى قائلاً سنشده عضوك باخيك ونجعل كلما سلطاناً فالبيان هو الوسيلة الناجحة في الإقناع والزام المدعوين الحجة حيث يفحم البرهان بالفصاحة التي وهبها الله لهرون وقد خاف موسى أن يضيق صدره ولا ينطلق لسانه حين يكذبه القوم الظالمون فرعون رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدره ولا ينطلق لساني فارسل معي هرون.
وعبارة القرآن سنشده عضوك بأخيك رائعة قوية ولا شك أن فصاحة هرون كانت الدرجة الأقوى في شد العضد لأنها هي التي دعا إليها موسى وأعلن عن حاجته القصوى لها فالفصاحة إذن من أقوى الدعائم التي تقوم عليها الرسالات ومن أهم الوسائل التي تتحقق بها البلاغة، ولمكانة البيان وسموه فكان من أعظم ما عادى به فرعون بني الله موسى لأنه ليس مبيناً فتوجه إلى الملأ من قومه ذاكراً أن موسى ليس برسول وإذا صح جدلاً أن يكون رسولاً لأحد فلا يصح أن يكون رسولاً لفرعون، ولعل فرعون كان على درجة عالية من البيان يقول تعالى ونادي فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أقلا تبصرون أن أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين.
ولذلك دعا موسى أن يمنحه الله قوة فصاحة البيان وأن يزيل من لسانه كلما يحول بينه وبين فصاحة الداعي إلى الله حتى يفقه قومه ما يقول فقال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.