You are here

قراءة كتاب مذكرة - البيان النبوي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مذكرة - البيان النبوي

مذكرة - البيان النبوي

البلاغة هي تأدية المعنى جلياً واضحاً بعبارة فصيحة بليغة لها في النفس أثر خلاق مع ملاءمة كل كلام بالموطن الذي يقال فيه والأشخاص الذين يخاطبون به، فالبلاغة هي فن من الفنون يعتمد على صفاء الاستعداد الفطري ودقة إدراك الجمال وتبيين الفروق الخفية بين صنوف الأسالي

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار زهران
الصفحة رقم: 3

منطق الرسول " ص "

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أن الأنبياء قليلو الكلام فقال :-
إنا معشر الأنبياء بكاء، وقد رواه الأصمعي وابن الأعرابي كما أورده الجاحظ في البيان والتبيين ثم قال الجاحظ البك هو القلة وأهل ذلك في البن، وقد جعل الرسول (ص) صفة الأنبياء قلة الكلام، وليس ذلك من عجز في الخلقة ولو كانت كذلك في النبي (ص) لكان أحق بمسألة تلك العقدة من موسى، لأن العرب أشد فخراً ببيانها وتصريف كلامها وشدة اقتدارها، وعلى حب ذلك كانت ذرياتها على كل من قصر عن ذلك التمام، وقد جعل الجاحظ أسباب قلة الكلام الرسول (ص) النفور من التكلف والبعد عن الصنعة وشدة المحاسبة للنفس، وذكر في هذا الموضع قول الله تعالى (قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين) على أن العرب شاهدوا النبي (ص) له الخطب الطوال في المواسم الكبار ولم يطل التماساً للطول ولا رغبة في إظهار القدرة على الكثير ولكن المعاني إذا كثرت والوجوه إذا افتنت تشعبت من الأغصان الأفنان وكثر عدد اللفظ وإن حذفت أصوله لغاية الحذف فأكثر أطوال النبي (ص) الإقلال في الكلام ولكن ذلك ليس عن عجز، وإنما كراهية التكلف وإظهار القدرة على الكلام، وقد كان هذا شأن كثير من بلغاء العرب وما زال وما يزال شأن الكثيرين من خطباء اليوم.
قال الجاحظ الذي تجود به القريحة وتعطيه النفس سهواً رهواً مع قلة لفظه وعدم هجائه أحمد أمراً وأحسن موقعاً في القلوب وامتع للمستمعين من كثير خرج من كد والعلاج والدليل الواضح والشاهد القاطع قول الرسول (ص) نصرت بالرعب واعطيت جوامع الكلم وهي الألفاظ القليلة المحتوية على المعاني الكثيرة، وقد كان النبي (ص) يكره الإكثار من الكلام والمبالغة والتكلف فيه وفي ذلك يقول: الموطؤن أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون: إلا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مجالس من يوم القيامة: الثرثارون المتفيهفون ويقول "ص" أبغض الرجال إلى الله تعالى الذي يتخلل بلسانه تخلل الباخرة.
وقد نهى "ص" عن التشادق، وقال " ص " إن الله يكره الإنبعاق في الكلام فنظر الله وجه رجل أوجز في كلامه واختصر على حاجته.
ونجده "ص" في رواية أخرى بغض في الإكثار ورغب في الإيجاز ومن ذلك قوله لجرير بن عبد الله البجلي : يا جرير إذا قلت فاوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلم.
نلاحظ أن النبي "ص" المثل الأعلى في البلاغة البشرية، لم يكتف بالتبغيض في الثرثرة والتكلف، بل أخرج هذه الكلمات في معانٍ قاسيه تناسبها، وحين شبه جاء تشبيهه مطابق لما يريده من تهجين للكلام الزائد عن الحاجة، فعبر عنها بالفاظ منفرة تماثلها مثل قوله المتفيهقون- الثرثارون التشادق- الانبعاق، وكان بإمكانه (ص) أن يأتي بألفاظ مرادفة لها في المعنى وأعذب وقعاً ولكن من المتفق عليه أن من بلاغة الكلام التطابق التام بين المعاني والألفاظ، وقد روى عن عائشة رضى الله عنها صفة منطق الرسول "ص" قولها: كان الرسول يتكلم بكلام بَيّنٍ فّصْلٍ يحفظه من جلس إليه وفي حديث آخر عنها قالت كان "ص" يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
وقد جاء في وصف أم معبد لمنطق رسول الله "ص" بما يشبه وصف عائشة رضي الله عنها قال: إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصلُ لا نذر ولا هذر كأن منطقه حزاوات نظم يتحدرن وكان النبي "ص" وصاحبه نزلا بخيمتها في طريقهما من مكة إلى المدينة في الهجرة.
وقد وصفه هند ابن ابي هاله، وأبو هاله هو مالك بن تميم وكان زوج لخديجة بنت خويلد قوله عنها هاله وزينب وتوفى عنها في الجاهلية وكان هند هذا نبيهاً وصافاً وهو صاحب حديث وصف النبي "ص" وهو حديث طويل مشهور، وفي وصف هند لمنطق الرسول "ص" ما يؤكد لكل ما سبق حيث قال: كان رسول الله "ص" متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت يفتتح الكلام ويختتمه باشداقه، يتكلم بجوامع الكلام، فصلاً لما فضول فيه ولا تقصير.
وقد وصف عمر بن الخطاب حديث الرسول "ص" في قوله: كان أوجز الناس كلاماً وأنه كان جهير الصوت، أحسن الناس نغمةً. وروى عن قتادة رحمه الله قوله ما بعث نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وقال علي رضي الله عنه ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا سمعتها من رسول الله "ص" سمعته يقول مات حتف أنفه وما سمعتها من أحد غير من قبل.
وقد وصف الرسول "ص" مرة سحابة وأصحابه يستمعون إليه فقالوا له ما رأينا الذي هو أفصح منك فقال وما يمنعني ذلك فإنما انزل القرآن بلساني بلسانٍ عربي مبين.
ويروى الرواة أن ابا بكر رضي الله عنه قال للنبي "ص": لقد طفت بالعرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت الذي هو أفصح منك فقال عليه الصلاة والسلام أدبني ربي فأحسن تأديبي وفي معنى هذا الحديث آخر روى عن علي رضي الله عنه قال : قدم بنو نهد بن زيد على النبي "ص" فقالوا: اتيناك من غور تهامةٍ، وذكر خطبتهم وما أجازهم به رسول الله "ص" ثم قال أحدهم : نبي الله نحن بنو أبٍ واحدٍ ونشأنا في بلدٍ وحدا وانك تكلم العرب بلسان لا نفهمه أكثره، فقال "ص" أدبني ربي ونشأت في سعد بن بكر.
وفي كتاب الرعد والمطر لأبن أبي الدنيا في حديثة رفعه قال: إن أعرابياً قال للنبي "ص" ما رأيت أفصح منك.
وللجاحظ وصف طويل لكلام الرسول "ص" قال : كلامه قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف، يستعمل المبسوط في جانب البسط والمقصور في جانب القصر، وهجر الغريب الحوش ورغب عن الهجين السوقي، ولا يلتمس اسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلح إلا بالحق ولا يستعين بالخلابه، وقال الزمخشري : هذا اللسان العربي كأن الله مخضه والقى زبدته على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فما من خطيب يقاومه إلا تكن متفكك الرحل وما من مصفح يناهده إلا رجع فارغ السجل. وقال القاضي عياض صاحب كتاب الشفاء وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان "ص" من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل سلامة طبع وبراعة منزع وإيجاز مقطع ونصاعة لفظ وجزالة قول وصحة معانهٍ وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب يخاطب كل امة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في بلاغتها حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله.
وللأستاذ مصطفى صادق الرافعي فصل طويل في البلاغة النبوية ذيل به كتابه (فصاحة القرآن) وهو فعل جيد عن قراءته من يزيد الوقوف على جوانب البلاغة النبوية، وسننقل هنا كلمات يسيرة لما نحن بصدده لوصف البلغاء لبلاغة الرسول "ص" ومن الأنصاف أن أقول أنني استفدت كثيراً في هذا الدرس من كلام الرافعي، يقول الرافعي:
إن أسلوب النبي "ص" منفرد في هذه اللغة فإنك لا ترى فيه حرفاً مضطرباً ولا لفظة مستكرهاً على معناها ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعني، وإن جهات الصنعة في الكلام وفي اللغة والبيان والحكمة قد سلمت للنبي "ص" على أتمها ولم تسلم لبليغ غيره قط، واللغة عند النبي "ص" فطرية والبيان بيان أفصح الناس نشأة وأقواهم من الذكاء والإبهام أما الحكمة فتلك حكمة النبوة وتبصير الوحي وتأديب الله تعالى.

Pages