المجموعة القصصية "أنثى فوق الغيم"، المجموعة تضم خمسا وعشرين قصة، نقرأ من أجوائها:
دجاجة شهية كان يراها، ريشها كان يزعجه، يعريها دوما منه، ينتفه غير مبالٍ بألمها وانكشاف سوأتها.
You are here
قراءة كتاب أنثى فوق الغيم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أنثى فوق الغيم
أحقاً أحرقوك ليخففوا عنك؟! وهل كان في تلك النار راحةٌ لك؟! كيف أحرقوك؟ وبأي ذنب؟ وبأي حق؟
هم لم يروا شيئاً، لم يشهدوا شيئاً. بل كان كلاماً، شرراً انتشر كالنار في الهشيم، أحرقكِ وأحرقني.
كان حديثاً وحادثاً، كحادثة الإفك. كلٌ أدلى بدلوه، أحضَروا الحطب كلٌّ حسب إمكانياته اللغوية، وقدراته التخيلية، وإبداعاته الوصفية. وقبل أن تحرقك نارهم، أحرقتك عيونهم، نظراتهم، وأجمعوا أنك مذنبة.. وقرروا أنكِ مخطئة، بل غارقةٌ في وحل الخطيئة، ولابد من تطهيرك..
هم بقذاراتهم أرادوا تطهيرك ويا للعجب!!
في ذاك اليوم.. بل في تلك الليلة.. أخذوني من حضنك، من جنتي. أذكر طيفك حينها، بكاءك، استنجادك، استرحامك واستعطافك. كلماتُك حفرتْ في قلبي أخدوداً من الحزن والأسى. قلتِ بدمع القلب: والله بريئة، حرامٌ عليكم، لا تظلموني؛ والله لا أعرف الحرام ولا عمري اقتربت منه، حرااااام.
ويتعالى نشيجك وهم يسحبونك سحباً.. وأمكِ تركلكِ برجليها وأنت تستعطفينها: أماه.. أنا ابنتك.. أنت ربيتني.. أمي.. ألا تعرفينني؟! أنت تحرقينني؟!
وأبوك يبصق في وجهك -ذاك الذي كنت أستقي منه النور مشرقاً باسماً- ويقول: أنت تستحقين أكثر من ذلك يا(.......) لطختِ سمعتنا في الطين.
قيدوكِ بحبال غليظة كقلوبهم، قاسية كأحكامهم، بجانب ذلك الجدار أجلسوك، سكبوا فوقك البنزين، وأشعل أخوك النار ليوقدها فيك.. حينها.. صرختِ: الله يخليكم، "بس أشوف" ابني.. "بس أبوسه" أحضنه.. "أشم ريحته"، "أشوف عيونه" الله يخليكم.. "بس ابني.."، صفعك أخوك، شتمك، نعتك بأرذل الكلمات، وأقبح الصفات وأضرم نار حقده وكرهه وغبائه فيك.. في جسدكِ.. في عينيكِ.. في يديكِ.. أحرقَ صدركِ الحنون فمن سيدفئني؟! من سيحضنني؟؟ أحرق شفتيك الرقيقتين الصغيرتين، فكيف ستغنين لي؟ أحرقوا قلبك، قتلوا نبضك، جففوا دمك، ثم نثروك رماداً.. لكنهم لم يحرقوا روحك التي تسكنني. هم لم يتنسـّموا عطرك المنبعث مع ذاك الرماد.. مع ذاك اللحم المحترق.. قلبك الصادق احترق.. عشقي.. غرامي.. حبي.. وهيامي احترق.. وتغلغلتْ أنفاسك المحترقة خلايا جسدي فبتّ أعشقُ رائحةَ الرماد، وأحترمُ كل رماد، ويبكيني أي رماد. وبقي آخر أنفاسك يجوب المكان يردد: "بس ابني...." وروحك تبحث عني.
وبقي أثرك المحترق على ذلك الجدار شاهداً لا يغيب.. أحرقوكِ.. حوّلوكِ رماداً أسودَ.. لكن لم يعلموا أنكِ تركتِ خلفكِ جداراً أبيض.. وابناً يحترق.."
أنهت "حواء" كتابة القصة، وانتزعتْ قلمها من بين أناملها، همت بالنهوض.. لكن طرف ثوبها كان عالقا هناك بين جنبات أوراقها، ويدٌ محروقة تمتدّ تمسك بها، تتشبث بها كغريق، تجذبها، تسحبها نحوها بقوة وعنف.
حاولتْ التفـلُّت.. كادت أن تصرخ؛ فما يحدث معها غريب.. كيف لتلك القابعة في خيالها أن تجذبها وتتمسك بها؟! وهي رسمٌ في طيِّ صفحاتٍ وجنبات أوراق وركام حروف وكلمات؟! وقد أحرقوها، وجعلتْها معهم رماداً، وتركتْ طفلها هناك وحيداً ينظر إليها تارة وإليهم تارة أخرى دون أن تمد له يد معونة، أو تنشر له حرف أمل وطرف صفحة بيضاء.
وما ظنّت يوماً أن تكتب قصتها بقلمها، وأن تكون قد سطرت نهايتها بيدها، وأنّ ما تأسّت عليه من ظلمٍ وجورٍ سيقع عليها ذات غفلة من الضمير.
أحاطوا بحواء هناك، بجوار رمادها وتلو عليها صكوك الاتهام: أنتِ مثلُها.. بل أسوأ.. وتستحقين مصيرها بل أشد.
لفوا حولها حبالهم.. وسكبوا ذات البنزين.. وأشعلوها.
حاولت التفلت، الخروج من مأزق به نهايتها. نادت وصرخت بأعلى صوتها؛ لعلّ أحدهم يتنبه لها، يساعدها. أحد المارة تناهى له صوت مزعج، تلفّت حوله.. لم يعلم مصدر ذاك النحيب والتوسل، فمضى. وآخر لم يُعره اهتماماً أو التفاتاً، وبحركة لا مبالية أغلق تلك الصفحات، وكسر ذاك القلم.. وبقيت هي تحترق.