كتاب " ناصـر 67 - شـهادة إسـرائيلية " ، تأليف: د.نبيل راغب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب ناصر 67 - شـهادة إسرائيلية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ناصر 67 - شـهادة إسرائيلية
ويستشهد دايان بالرسالة التى بعث بها تشرشل إلى الرئيس أيزنهاور ، مباشرة فى أعقاب حملة السويس عام 1956 ، متمنيًا أن يكرر التاريخ نفسه وتخفف الولايات المتحدة من ضغطها على إسرائيل فيما يتصل بالمواجهة مع السوڤيت . ففى عام 1956 مارست الولايات المتحدة ضغطًا قويًا على حليفتيها فرنسا وإنجلترا لسحب قواتهما من مصر ، فاستجابت الحليفتان فى الحال . لكن تشرشل الذى لم يكن رئيسًا للحكومة ، كان يأمل فى أن يقنع حليفه فى الحرب العالمية الثانية ، بتخفيف الضغط ، خشية أن يؤدى الانسحاب إلى دخول السوڤيت إلى الشرق الأوسط وفرض وجودهم فى المنطقة . وأكد تشرشل فى رسالته إلى أيزنهاور على أن أى انتصار لعبد الناصر سيكون انتصارًا أكبر للاتحاد السوڤيتى . وينهى رسالته بقوله :
«إننى أكتب هذه الرسالة لمعرفتى بالمكان الذى يقع فيه القلب . فأنتم الآن ، الشخص الوحيد الذى يمكنه التأثير فى الأحداث ، سواء فى الأمم المتحدة أو فى العالم الحر ؛ فلا تضيع القضايا الجوهرية فى مهاترات بين الأمم ، فإن مسؤوليتكم هى ، فى الحقيقة ، مسؤولية كبرى . وليس هناك من يؤمن بجدارتكم ، بتحمل العبء ، أكثر من هذا الذى يرسل لكم أفضل التمنيات ، صديقكم القديم» .
وينستون تشرشل
ولعل غرور موشيه دايان بل بالأحرى عقدة نقصه من عبد الناصر ، هى التى جعلته يستشهد فى مذكراته بهذه الرسالة ، ويؤكد أنها جديرة بالقراءة عدة مرات ، لاسيما لعلاقتها المباشرة بالوضع الذى نشأ بالنسبة إلى إسرائيل بعد المواجهة مع الطيارين السوڤيت فى يوليو 1970 . فهو يرى أنه إذا كان تشرشل يضع عبد الناصر على نفس مستوى الاتحاد السوڤيتى فى قدرته على التأثير فى مجريات الأحداث العالمية ، وهو الذى لم يتول الزعامة الحقيقية لمصر إلا قبل عامين من العدوان الثلاثى على مصر ، أى منذ عام 1954 عندما برز بصفته القائد الفعلى لثورة يوليو 1952 ، فإن دايان يعتقد فى قدرة إسرائيل على مواجهة السوڤيت لأنها لا تقل فى خطورتها وتأثيرها عن الدور الذى لعبته إنجلترا وفرنسا فى عام 1956 ، والذى اضطرتا إلى إنهائه تحت ضغط الولايات المتحدة التى عادت إلى الضغط على إسرائيل فى عام 1970 خوفًا من احتمالات المواجهة الكونية مع السوڤيت . لكن دايان ينسى أو يتجاهل الفرق بين مصر وإسرائيل فى هذا المجال . فلم يكن الاتحاد السوڤيتى سوى صديق أو زميل لمصر فى حربها المتواصلة ضد قوى الإمبريالية المتربصة بها فى حين لم تكن إسرائيل سوى ذيل أو مخلب للأطماع الأمريكية فى المنطقة ، ولذلك فالقياس مستحيل برغم رغبة دايان الحارقة فى إشباع الغرور الإسرائيلى . فلا وجود لإسرائيل بدون الولايات المتحدة الأمريكية ، لكن التاريخ يشهد الآن بأن مصر التى صنعت أول حضارة إنسانية على وجه الأرض ، وأصبحت الصخرة التى تكسرت عند سفحها كل أمواج الغزو وعبر آلاف السنين ، ستظل رمزًا للصمود والخلود فى حين اندثر الاتحاد السوڤيتى كأنه لم يكن بعد أن كان القوة العظمى الثانية فى العالم . وما فعله عبد الناصر فى حرب الاستنزاف كان أكبر دليل عملى على قدرة مصر الحضارية على مواجهة أعتى التحديات وأقسى الظروف التى تحولت إلى بوتقة ، انصهر فيها معدنها الثمين ليعود إليه تألقه ووميضه . إنها عودة الروح التى جسدها توفيق الحكيم فى روايته المشهورة ، أما روح إسرائيل فرهن بالولايات المتحدة الأمريكية التى توحى لليهود بسيطرتهم الفائقة على مقدرات الأمور داخلها ، وترضخ لكل طلبات المساعدة التى تتقدم بها إسرائيل فى كل المجالات ، فى حين أن إسرائيل كقاعدة أمريكية فى المنطقة أرخص بكثير مما لو استعانت أمريكا بجنودها وقواتها البحرية والجوية وأحيانًا البرية فى وضع المنطقة تحت سيطرتها وتهديدها . يكفيها وفرًا أن الجنود الإسرائيليين يقاتلون ويموتون بدلاً من الجنود الأمريكيين . وكانت إسرائيل تظن أنها فى أعقاب حرب يونيو 1967 قد استطاعت شن الحرب التى تنهى كل الحروب وأن السلام أو الاستسلام المصرى قادم إليها يجر أذيال الخيبة ويعض بنان الندم ، لكن عبد الناصر أثبت لها عمليًا ، برغم هزيمته ، أن كيانها سيظل مصنوعًا وأن موقفها الذى وضعتها فيه الإمبريالية العالمية سيزداد حرجًا ، ولن تتمتع بالاستقرار الذى تحلم به .
وبرغم تأييد الرئيس الأمريكى نيكسون لدايان بأنه إذا دخل السوڤيت اللعبة فلن يبقى الأمريكان خارجها ، فإن الخط المشترك الذى صنعه عبد الناصر بين مصر والاتحاد السوڤيتى شكل ضغطًا مباشرًا على توجهات السياسة الأمريكية . وقد تجلى هذا التوجه فى لقاءات دايان بروبرت أندرسون الذى كان وزيرًا للخزانة فى عهد أيزنهاور ، ثم أصبح من خبراء البترول ، خصوصًا فى الشرق الأوسط ، فكانت له صداقات مع مختلف الزعماء العرب . وكان دايان يحرص على لقائه فى كل مرة يزور الولايات المتحدة فقد كان يحترمه ويتوق إلى التحدث معه والاستماع إلى آرائه برغم أنه كان يبدى آراء لا يستسيغها دايان دائمًا . وما قاله له فى زيارة دايان لواشنطن فى ديسمبر 1970 – أى بعد رحيل عبد الناصر بحوالى شهرين – لم يرضه على الإطلاق ، وهو على حد قول دايان :
«علينا أن ننسحب إلى داخل حدود ما قبل حرب الأيام الستة . فإن تنفيذ ذلك من مصلحة أمريكا . ومن شأن رفضنا أن يجعل موقفنا غير مقبول» .
أى أن قوة الدفع التى حشد لها عبد الناصر كل الطاقات الممكنة ظلت مستمرة بعد رحيله بدليل أن الولايات المتحدة أدركت أن الوضع الجديد ، السياسى والعسكرى ، الذى رسخه عبد الناصر ، أصبح واقعًا لا يمكن تجاهله حتى بعد رحيله . بل أن دايان صرح فى محادثاته مع الرئيس نيكسون حين تناول احتياجات إسرائيل العسكرية بأنه يعلم بأن هناك وعدًا أمريكيًا أعطى لمصر ، يقضى بوقف إمدادات الأسلحة لإسرائيل ، طوال مدة محادثات روجرز للسلام ، فكان رد نيكسون أنه لا يعلم شيئًا عن مثل هذا الوعد . لكن دايان أكد له أن الأمر ليس مجرد شائعة لأن وزير خارجية مصر ، محمود رياض ، أعلن ذلك فى مؤتمر صحافى عقده فى واشنطن ، قبل أيام ، وأثبت كلامه بوثيقة رسمية . ويصف دايان لحظة المصارحة قائلاً :
«لم تكن مريحة ، تلك اللحظة ، التى وجه فيها الرئيس كلامه إلى ميلفين ليرد . (وزير الدفاع) ، سائلاً عن حقيقة الأمر ، فما كان من ليرد سوى أن رد بالإيجاب . فأضفت : إننا ، على كل حال ، نعرف حقيقة الأمور ، وهى أن الولايات المتحدة أوقفت بيع الأسلحة لإسرائيل» .
لقد أدرك دايان أن الأمور لم تعد كما كانت قبل مناورة عبد الناصر السياسية البارعة ، وأنه يحارب إسرائيل بالسلاح والسياسة ، وأنه قادر على أن يخرج من جعبته ما لا يتوقعه خصومه وأعداؤه الذين قد يظنون أن الحلقات ضاقت حوله واستحكمت ولم يعد هناك منفذ سوى أن يلقى بسلاحه ويستسلم لقد كان محاربًا من طراز فريد بل ونادرًا بحيث أجبر أعداءه وفى مقدمتهم موشيه دايان على الاعتراف بإنجازاته وتحدياته تحت وطأة ظروف تكاد تكون مستحيلة ، وكانت شهادته خير إثبات لا يقبل التفنيذ على أن عبد الناصر كتب أروع الصفحات المجيدة والمضيئة فى حرب الاستنزاف التى ظلمت إعلاميًا وتاريخيًا سواء على المستوى المصرى المحلى أو المستوى العربى الإقليمى ، لكنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح ، ومن هنا كانت شهادة الخصوم والأعداء التى لا يمكن أن يدحضها مكابر أو مغرض لسبب أو لآخر ، خاصة أن ما شهد به الأعداء لابد أن يكون من منظورهم الخاص وبلونه المنحاز ، لكن الحقيقة الراسخة التى صنعها عبد الناصر فى حرب الاستنزاف كانت أرسخ وأضخم وأعمق من كل محاولات اقتلاعها أو تسطيحها أو تجاهلها . ومهما جرت محاولات محمومة لتزييف التاريخ ، فإن طاقته التصحيحية التى تتجسد فى إنجازات علماء التاريخ ومحلليه الموضوعيين كفيلة بفضح كل المدعين والمزيفين والآكلين على كل الموائد .

