You are here

قراءة كتاب فلسطين والفلسطينيون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
فلسطين والفلسطينيون

فلسطين والفلسطينيون

كتاب " فلسطين والفلسطينيون " ، تأليف د. عصام سخنيني ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2003 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

ومع دخول الإنسان عصر الحديد أخذت صناعاته في الاتساع بسبب استخدامه الدولاب المصنوع من الحديد وأدوات القطع والتشذيب المصنوعة منه أيضا فتطورت صناعات النسيج والصناعات الخشبية والجلدية، كما أن صناعة البناء المعتمدة على الحجر قد تطورت أيضا· وإلى جانب هذه النواحي المدنية في الحضارة الجديدة حدثت ثورة في صناعة الأسلحة لما وفره الحديد من إمكانات جديدة كان يفتقر إليها البرونز من حيث صلابة الأسلحة المصنعة منه والقدرة على تشكيلها· كذلك دخلت العربة المعتمدة على العجلات في الحروب بكل ما تحمله هذه الآلة من إمكانات عسكرية متميزة·

وكانت آسيا الصغرى ـ في بعض النظريات التاريخية ـ هي الأولى التي شهدت بزوغ فجر عصر الحديد، بينما تذهب آراء أخرى إلى أن البداية كانت في اليونان· ومهما كان الأمر فإن الفلستيين، قبل هجرتهم إلى أرض كنعان الجنوبية، كانوا على تماس جغرافي وحضاري مع كلا المنطقتين فكان من الطبيعي أن يكونوا قد انخرطوا في حضارة عصر الحديد وهم في موطنهم الأصلي، ثم حملوا معهم إلى موطنهم الجديد كل معطيات هذه الحضارة بما فيها الوسائل التكنولوجية الجديدة التي وفرها استخدام الحديد في مجال الانتاج الزراعي والصناعي·

ويمكن أن يستنتج من هذا أن أرض كنعان الجنوبية قد دخلت في طور انتعاش اقتصادي منذ أن قدم الفلستيون إليها· وقد ساعد على ذلك أن موجة الجفاف المناخي التي عرفتها المنطقة في عصر البرونز المتأخر قد أخذت تنحسر بالتدريج في زمن مترافق تقريبا مع قدوم موجة الهجرة الفلستية إلى أرض كنعان الجنوبية· وقد أدى كل ذلك إلى تطور المدن الفلستية إلى مراكز اقتصادية متقدمة وعلى درجة عالية من الازدهار، كما تدل على ذلك نتائج التنقيبات الأثرية التي أجريت حديثا· ومن الأمثلة التي تدل على هذا الوضع، وهي قليلة على كل حال، مثل مدينة عقرون التي كشفت الحفريات فيها عن معاصر لزيت الزيتون كانت تجعلها أكبر مركز عالمي لهذه الصناعة في القرن السابع قبل الميلاد(36)· ومثل ثان على هذا الوضع المدينة التي أقامها الفلستييون عند تل القصيلة على الضفة الشمالية من نهر المقطع التي عثر في أنقاضها على بقايا مصهرين للمعادن كبيرين جدا(37)· والمثل الثالث هو مدينة عسقلان التي اكتشف في بقاياها ميناء بحري يعود إلى العام 0 5 1 1 ق·م· كان له الأثر في جعل هذهالمدينة ذات أهمية اقتصادية متفوقة(38)·

بجانب ذلك خلق الحديد الذي عرفه الفلستيون قبل غيرهم من شعوب المنطقة ثورة في صناعة الأسلحة أتقنها هؤلاء اتقانا تاما مما منحهم تفوقا عسكريا ملحوظا حتى أنهم خلال القرون الأولى من امتلاكهم فلستيا أصبحوا هم القوة المحلية المهيمنة التي تمثل تهديدا رئيسيا لجميع المجموعات الإثنية في المنطقة(39)· ولم تفت هذه الحقيقة كتبة التوراة وهم في طور نسج حكاياتهم عن الحروب بين الفلستيين والإسرائيليين· فبغض النظر عن حجم اليقين في تلك الحكايات فهي تكشف أخبارا كانت قد وصلت إلى هؤلاء الكتبة عن تفوق الفلستيين العسكري نتيجة تنوع أسلحة الحديد التي كانت بحوزتهم والتي احتكروا صناعتها في تلك الحقبة التاريخية(40)·

وما ينبغي أن يضاف إلى ذلك أن الفلستيين بعد مقدمهم إلى ارض كنعان الجنوبية سرعان ما تحولوا من مجموعات بشرية غازية إلى كيانات سياسية مستقرة ذات تنظيمات مدنية قامت في المدن ـ الدول التي أقاموها سواء منها تلك التي كانت كنعانية واستولوا عليها أم تلك التي أنشأوها بمبادرة منهم·

نحن هنا، إذن، أمام حقيقة تاريخية تؤكد ارتقاء شأن الفلستيين حضاريا على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية· وهذه الحقيقة فرضت نفسها الآن على البيئة العلمية المتعاملة مع الشأن الفلستي، ويقر بها أمثال أرن مائير، من معهد الآثار بجامعة بار إيلان الإسرائيلية الذي ترأس مجموعة للتنقيب عن آثار مدينة جات الفلستية في موقع تل الصافي الحالي (انظر الخارطة رقم 1)، فهو يؤكد أن آثار تل الصافي وغيرها من المواقع الفلستية تكشف عن حضارة ثرية وراقية(41)·

وكان أبرز ما يميز هذه الحضارة أنها كانت منفتحة قابلة للأخذ والعطاء· ودون إدراك هذا الانفتاح الحضاري لا نستطيع أن نفهم كيف أن الفلستيين بعد فترة وجيزة من استقرارهم في أرض كنعان الجنوبية قد اندمجوا في السكان الأصليين، وهم كنعانيون، وتشربوا ثقافتهم وصبغوا بصبغتهم· ويدل على ذلك دراسة المخلفات المادية التي عثر عليها في هذه المنطقة التي تؤكد أن الفلستيين تكنعنوا، إن جاز التعبير، تدريجيا إلى أن اندثرت بالفعل ملامح هويتهم الإثنية القديمة، التي جاؤوا بها من بحر إيجة، وحملوا هوية جديدة هي الكنعانية بكل تأكيد· مثل هذه المخلفات المادية نجدها في الخزفيات التي كانت تحمل في البداية طابعا ينتمي إلى النمط المسيني ثم لتختفي هذه الخزفيات بالتدريج لتحل محلها خزفيات تنتمي إلى أنماط محلية واضحة(42)·

كذلك الأمر في المدافن، وقد وجد منها القليل جدا إلا أنا تدل على أن طقوس دفن الموتى لدى الفلستيين كانت خليطا من أصول إيجية وقد طغت عليها عناصر كنعانية ومصرية(43)· وقد جاءتهم هذه العادات المصرية من الكنعانيين أنفسهم الذين أخذوا عن المصريين بعض طقوسهم في دفن الموتى(44)· كذلك يتضح تأثر الفلستيين بالكنعانيين من ملاحظة أسمائهم فقد حمل عدد من حكامهم الذين وصلت إلينا أسماؤهم أسماء كنعانية أمثال أخيميليك وصدقا ومتينتي وحنون(45)· وإلى ذلك فقد تركزت الممارسات الدينية، في فلستيا، حول آلهة كنعانية قديمة مثل داجون وعشتاروت(46)·

وكان تأثرهم الأكبر بالكنعانيين قد تم على صعيد اللغة فقد تخلى الفلستيون عن لغتهم القديمة المينوية Minoan (منسوبة هكذا إلى الحضارة المينوية التي سادت في كريت ووصلت ذروتها حوالي 0 0 6 1 ق·م·) وأخذوا باللغة الكنعانية حتى عرفوا بها· ويدل النص الوحيد المتكامل الذي عثر عليه حتى الآن وينسب بغير شك إلى الفلستيين أن الكنعانية كانت لغتهم الوحيدة التي كتبوا بها· ففي العام 6 9 9 1 عثر في بقايا معبد عند موقع عقرون القديمة على نقش على الحجر يعود مبدئيا إلى القرن السادس ق·م· كتبه ملك عقرون الفلستي في خمسة أسطر يذكر فيه أنه قد بنى هذا المعبد للإلهة بتجايا وهو يدعوها أن تطيل أيامه وتبارك أرضه وقد كتب النص باللغة الكنعانية(47)·

إن صيرورة التحول هذه إلى الكنعانية جعلت بعض الباحثين يسيرون على خط معاكس للفرضيات السابقة عن أصل الفلستيين باعتبارهم من منطقة بحر إيجة، ليطرحوا نظرية مخالفة تقول بالأصل السامي للفلستيين· وتذهب هذه النظرية إلى القول بأن الساميين استوطنوا كريت في إحدى الحقب التاريخية، وأن الفلستيين هم من أولئك الساميين الذين عادوا إلى أرض كنعان بعد احتكاكهم بالقبائل اليونانية، وتدعم هذه النظرية بشواهد من اللغة والديانة وأسماء الأشخاص، فالفلستيون إذا أخذوا جملة فهم يبدون شعبا ساميا، أو على الأقل صبغ بالسامية semitized مع بعض العادات والمؤسسات والكلمات غير السامية(48)· غير أن هذه النظرية لا يمكن إثباتها فهي قد استنطقت النتائج التي آلت إليها حال الفلستيين بعد توطنهم في ارض كنعان دون أن تقدم براهين كافية لإثبات الأصل السامي لهم· أما ما هو ثابت تاريخيا فهو أن الأدلة الأثرية على طول السهل الساحلي لفلسطين العائدة إلى النصف الثاني من القرن الثاني عشر قبل الميلاد تظهر بوضوح أن المهاجرين من بحر إيجة، حيث استوطنوا، أصبحوا مندمجين تماما بالسكان فقد تبنوا اللغة السامية والآلهة السامية لمضيفيهم وأثروا تأثيرا عميقا في ثقافة المنطقة(49)·

Pages