كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.
You are here
قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وقد سبق أن قررت في مقدمتي أنه لا يمكن أن تظهر ثقافة أو تنمو إلّا وهي متصلة بدين. ولكن استعمال كلمة «الصلة» هنا قد يوقعنا في الخطأ بسهولة. ولعل الافتراض غير المحقق لعلاقة ما بين الثقافة والدين هو أهم نقط الضعف في كتاب أرنولد «الثقافة والفوضى». فأرنولد يوحي إلينا بأن الثقافة (كما يستخدم هذا الاصطلاح) أشمل من الدين، وأنَّ الدين ليس إلّا عنصرًا ضروريًا يعطي تكوينًا أخلاقيًا وشيئًا من تلوين انفعالي للثقافة، وهي القيمة النهائية.
ولعل القارئ قد لاحظ أن ما قلته عن نمو الثقافة، وعن أخطار التفكك عندما تصل ثقافة ما إلى مرحلة عالية من التطور، يمكن أن ينطبق أيضًا على تاريخ الدين. فإن نمو الثقافة ونمو الدين في مجتمع لا تؤثر فيه عوامل خارجية أمران لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ويتوقف على ميل الناظر أن يحكم بأن رقي الثقافة سببٌ لتقدم الدين، أو بأن تقدم الدين سبب لرقي الثقافة. ولعل ما يدفعنا إلى اعتبار الدين والثقافة شيئين مختلفين هو تاريخ تغلغل الإيمان المسيحي في الثقافة الإغريقية الرومانية، وهو تغلغل كانت له آثار عميقة في تلك الثقافة وفي مجرى نمو الأفكار والعادات المسيحية على السواء. ولكن الثقافة التي اتصلت بها المسيحية الأولى (مثل البيئة التي نبتت فيها المسيحية) كانت هي نفسها ثقافة دينية في دور الانحدار. ولهذا فإننا مع اعتقادنا بأن الدين الواحد يمكن أن يمد ثقافات شتى، يحق لنا أن نسأل: إن كان من الممكن أن تظهر ثقافة ما إلى الوجود أوتحافظ على نفسها بدون أساس ديني. ولنا أن نمضي إلى أبعد من ذلك فنسأل: أليس ما نسميه «ثقافة» شعب ما ودين هذا الشعب مظهرين مختلفين لشيء واحد؟ إذ الثقافة في جوهرها تجسيد (ونحن نستعمل هنا تعبيرًا مقاربًا) لدين الشعب؟ ولعل وضع المسألة على هذه الصورة يلقي ضوءًا على ما أبديته من تحفظات بشأن كلمة «الصلة».
مع نمو المجتمع يظهر عدد أكبر من الصلاحيات الدينية والوظائف الدينية بدرجاتهما وأنواعهما، كما يظهر ذلك في غيرهما من الصلاحيات والوظائف. ومن الملاحظ أنه في بعض الأديان يصل التمايز إلى حد ظهور دينين في الواقع: دينٌ للعامة ودينٌ للخواص. ولا خفاء في مضارِّ وجود «أمتين» في الدين. وقد قاومت المسيحية هذا المرض خيرًا مما قاومته الهندوكية. فالانقسامات الدينية في القرن السادس عشر وما تلاها من تعدد الفرق يمكن دراستهما إمّا على اعتبار أنهما يؤرخان انقسام الفكر الديني أو على اعتبار أنهما صراع بين فئات اجتماعية متعارضة ـ إمّا بوصفهما اختلافاتٍ في المبدأ الديني أو تفككًا في الثقافة الأوربية. إلّا أنّه مهما تكن هذه الاختلافات الواسعة في المعتقد على مستوى واحد داعيةً للأسف، فإن الإيمان يمكنه ـ ويجب عليه ـ أن يجد مجالًا لدرجات كثيرة من التقبل الفكري والخيالي والعاطفي لمبادئ دينيةٍ واحدة، بقدر ما يمكنه أن يتسع لاختلافاتٍ كثيرةٍ في النظام والطقوس. وكذلك يمكن أن يكون للإيمان المسيحي تاريخ، إذا نظرنا إليه من الناحية النفسية باعتباره نُظُمًا من المعتقدات والمواقف في عقولٍ معينةٍ متجسمةٍ، وإن يكن من الخطأ الجسيم أن نفترض أنَّ القول بنموه وتغيّره يتضمن إمكان وصول الكائنات البشرية إلى مزيد من القداسة أو مزيد من النور عن طريق التقدم الجماعي (نحن لا نفترض أن هناك تقدمًا حتى في الفن على مدى فترةٍ طويلةٍ، ولا أنَّ الفن «البدائي»، بوصفه فنًا، أحط بالضرورة من الفن الأكثر تعقيدًا). ولكن من سمات التطور ـ سواء أخذنا بوجهة النظر الدينية أم بوجهة النظر الثقافية ـ ظهور الشك: ولا أعني به ـ كما هو ظاهر ـ الكفر أو التحطيم (ولا ـ من باب ـ عدم الإيمان الناتج من الكسل العقلي) بل عادة فحص الأدلة والقدرة على تأجيل الحكم. فالشك سمة تمدّن راق، ولو أنها حين تنحدر إلى البيرونية(14) فقد تؤدي إلى موت المدنيّة. فالشك قوة حيث البيرونية ضعف: لأننا لا نحتاج فقط إلى القوة لتأجيل الحكم بل إلى القوة لإبرامه.
وفكرة أن الثقافة والدين هما مظهران لشيء واحد إذا أخذ كل لفظ منهما سياقه الصحيح، فكرة تحتاج إلى شرح طويل. ولكنني أود أن أنبه أولًا إلى أنها تهيئ لنا وسيلة لمحاربة خطأين يكمل كل منهما الآخر. وأشيعهما أن الثقافة يمكن حفظها وبسطها وتنميتها بغير دين. وهذا خطأ قد يشترك فيه المسيحي مع الكافر، ويحتاج نقضه على الوجه الصحيح إلى تحليل تاريخي بالغ الدقة، لأن الحقيقة لا تظهر من أول وهلة، بل ربما بدت الظواهر مناقضة لها: فقد تتلكأ ثقافة ما ـ وقد تنتج حقًا بعض آياتها الكبرى، في الفن وغير الفن ـ بعد انحلال الإيمان الديني. والخطأ الثاني هو الاعتقاد بأن المحافظة على الدين ورعايته لا شأن لهما بالمحافظة على الثقافة ورعايتها، وهو اعتقاد قد يغلو حتى يؤدي إلى رفض الآثار الثقافية على أنها لهو يحول دون الحياة الروحية. ولنستطيع رد هذا الخطأ نحتاج كما نحتاج في سابقه إلى أن ننظر نظرة بعيدة، وأن نرفض التسليم بأن الثقافة شيء يمكننا الإعراض عنه لأن الثقافة التي نراها هي ثقافة منحدرة ويجب أن أضيف أن هذه النظرة إلى وحدة الثقافة والدين لا تقتضي أن كل منتجات الفن يمكن قبولها بدون نقد، ولا هي تقدم معيارًا به يستطيع كل امرئ أن يميز بينها تمييزًا سريعًا. فالحساسية الفنية يجب أن تمد إلى الإدراك الروحي، والإدراك الروحي يجب أن يمد إلى الحساسية الفنية والذوق المروض قبل أن نكون قادرين على الحكم على الفن بأنه منحل أو شيطاني أوعدمي. ينبغي أن يكون الحكم في النهاية واحدًا سواء أحكمنا على عمل فني بمقاييس فنية أم دينية، وسواء حكمنا على دين بمقاييس دينية أم فنية ـ وإن كانت نهاية لا يستطيع فرد واحد أن يصل إليها.
إنَّ ما حاولت التلويح به من نظرة إلى الثقافة والدين لجد عسير بحيث لا أحسبني أدركه أنا نفسي إلا لمحًا، ولا أحسبني واقفا على جميع دلالاته. وهي أيضًا نظرة تنطوي على خطر الوقوع في الخطأ في كل لحظة، لعدم التنبه إلى تغير في المعنى الذي يكون لكلتا الكلمتين حين تقتربان على هذا النحو، بصيرورتها إلى معنى قد يكون لإحداهما بمفردها. وإنما تصح هذه النظرة حيث نعني أن الناس لا يكونون واعين بثقافتهم ولا بدينهم. فكل امرئ مهما يكن وعيه الديني ضعيفًا لا بدّ أن يتألم من حين إلى حين للمتناقض بين إيمانه الديني وبين مسلكه، وكل امرئ له ذوق أسبغته عليه الثقافة الفردية أو ثقافة الفئة لابد يشعر بقيم لا يمكنه أن يسميها دينية. وزيادة على كون «الدين» و«الثقافة» يعنيان أشياء مختلفة كل عن الآخر، فإنهما كليهما ينبغي أن يعنيا للفرد وللفئة شيئًا يسعيان إليه، لا شيئًا يملكانه فحسب. ولكن ثمة وجها يمكننا أن نرى منه الدين على أنه كل طريقة الحياة لشعب من الشعوب، من المهد إلى اللحد، من الصبح إلى الليل، وحتى أثناء النوم، وطريقة الحياة هذه هي ثقافته أيضًا. وفي الوقت نفسه يجب أن نقر بأنه عندما يكون هذا التطابق تامًا فإنه يعني في المجتمعات القائمة فعلًا ثقافةً منحطةً ودينًا منحطًا. فإن دينًا عالميًا هو ـ بالقوة إن لم يكن بالفعل ـ أسمى من دين يَدَّعي أي جنس أو أمة الاختصاص به دون غيرهما، وإن ثقافة تحقق دينا يتحقق أيضًا في ثقافات أخرى هي ـ بالقوة على الأقل ـ أرقى من ثقافة تختص دون غيرها بدين من الأديان. فمن ناحية يجب أن نطابق، ومن ناحية أخرى يجب أن نميز.
وحيث إننا ننظر الآن من ناحية التطابق، فيجب على القارئ أن يذكّر نفسه دائمًا ـ كما يحتاج المؤلف إلى أن يذكّر نفسه ـ بسعة مدلول كلمة «الثقافة» هنا. فإنها تعني جميع المناشط والاهتمامات المميزة لشعبٍ ما: سباق دربي، سباق هنلي، يوم البحرية، الثاني عشر من أغسطس، مباراة نهائية على كأس، منضدة الأوتاد، لوحة السهام، جبن ونسليديل، الكرنب المشرح المسلوق، البنجر بالخل، كنائس القرن التاسع عشر القوطية، موسيقى الجاز(15). ويستطيع القارئ أن يصنع شيئًا من عنده. ومن ثم يكون علينا أن نواجه هذه الفكرة الغريبة: أنّ ما هو جزء من ثقافتنا هو أيضا جزء من ديننا الذي نعيشه.
ويجب ألّا نتصوَّر ثقافتنا على أنها موحدة كل التوحيد، وقد قصدت بالبيان الذي سردته أن أتجنب الإيحاء بهذه الفكرة. ولم يكن الدين الفعلي لأي من الشعوب الأوربية قط مسيحيًا صرفًا ولا أي شيء آخر صرفًا. فهناك دائمًا أجزاء وآثار من إيمانات أقرب إلى البدائية، قد تمثلت درجة من التمثُّل، وهناك دائمًا ميل إلى معتقدات طفيلية، وهناك دائما انحرافات كما يحدث للوطنية، التي تتصل بالدين الطبيعي وتعدُّ من ثم مشروعة بل تشجع عليها الكنيسة، حين يبالغ فيها حتى تتحول إلى صورة ساخرة من الوطنية. وكم يسهل على شعب أن يحتفظ بمعتقداتٍ متناقضةٍ وأن يسترضي قوى متعارضة.