You are here

قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ملاحظات نحو تعريف الثقافة

ملاحظات نحو تعريف الثقافة

كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 9

ولا شك أن ثمة ما يقلق في هذه الفكرة حين ندع خيالنا يسرح فيها: فكرة أن ما نعتقده ليس فقط هو ما نفصح عنه ونعلنه، بل إن السلوك هو أيضا اعتقاد، وأن أكثرنا وعيًا وتقدمًا يعيشون هم أيضًا على المستوى الذي لا يمكن فيه تمييز الاعتقاد عن السلوك. فهذه الفكرة تضفي أهمية على أتفه ما نمارسه، وعلى ما ننشغل به كل دقيقة من حياتنا، أهمية لا نستطيع أن نتأملها طويلًا دون أن نفزع كما نفزع من كابوس. إننا حين نفكر في صفة التكامل التي يتطلبها التفتح الكامل لحياتنا الروحية يجب أن نبقي على ذكر من إمكان الرحمة اللدنية ومُثُل القداسة حتى لا نسقط في هوة اليأس. وعندما ننظر في مشكلة التبشير بالإنجيل، وتنمية مجتمع مسيحي، يحق لنا أن نرتجف. فإن من البساطة التي تقرب من تشويه الحقيقة أن نعتقد أننا قوم أولو دين وأنَّ غيرنا من الناس لا دين لهم. وقد نجد ما يدعو إلى الجزع الشديد في فكرة أنَّ الدين ثقافة على جهة من النظر، وأنَّ الثقافة دين على جهة أخرى. وثمة ما يربك في سؤالنا: أليس للشعب دين بالفعل، يلعب فيه سباق دربي وسباق الكلاب دوريهما؟ وكذلك في تصورنا أن «الجيتر» والنادي الثقافي بعض دين رجل الكنيسة ذي المنصب السامي. ومما لا يستريح إليه المسيحيون أن يجدوا أنهم كمسيحيين لا يؤمنون إيمانًا كافيًا، بيد أنهم يشتركون مع كل امرئ آخر في الإيمان بأشياء أكثر مما ينبغي، ولكن هذه نتيجة للتفكير في أنَّ الأساقفة جزء من الثقافة الإنجليزية، وأنَّ الخيل والكلاب جزء من الدين الإنجليزي.

ومن المسلَّم به عادة أن هناك ثقافة، ولكنها ملك لقسم صغير من المجتمع، ويستتبع هذا الافتراض عادة إحدى نتيجتين: إمّا أنَّ الثقافة لا يمكن إلّا أنَّ تكون شغل فئة قليلة، ومن ثم فلا مكان لها في مجتمع المستقبل، وإما أن الثقافة التي كانت ملكا للقلة يجب أن توضع في متناول كل إنسان في مجتمع المستقبل. وهذا الافتراض وما يترتب عليه يذكّرنا بكراهة المتطهرين (البيوريتان) لحياة الأديرة والزُّهد. فكما تستنكر الآن تلك الثقافة التي لا تصل إليها إلّا القلِّة، فكذلك كانت البروتستنتية المتطرفة تستهجن حياة العزلة والتأمل، وتنظر إلى العزوبة باشمئزاز يكاد يعدل اشمئزازها من الانحراف الجنسي.

ولكي نفهم نظرية الدين والثقافة التي حاولت أن أعرضها في هذا الفصل، يجب أن نعمل على تجنب الخطأين المتعاقبين: خطأ اعتبار الدين والثقافة شيئين منفصلين بينهما علاقة، وخطأ المطابقة بين الدين والثقافة. وقد تحدثت في موضع سابق عن ثقافة شعب ما على أنها تجسيد لدينه. ومع أنني أدرك ما في استعمال مثل هذه اللفظة السامية من اجتراء، فإنني لا أستطيع أن أفكر في لفظة أخرى تعبر بمثل هذه الدقة عن القصد إلى تجنب «العلاقة» من ناحية «والتطابق» من ناحية أخرى. فكون دين ما حقًا، أو ذا نصيب من الحق، أو باطلًا، لا يقوم على المنجزات الثقافية للشعوب التي تعتنق هذا الدين، ولا يقاس بها. لأن ما يمكن أن يقال عن شعب ما أنه يعتقده، استدلالًا بسلوكه، هو دائمًا ـ كما ذكرت ـ أكثر بكثير وأقل بكثير من إيمانه المعلن في صورته الصافية. بل إنَّ شعبًا تكونت ثقافته مع دين ذي نصيب من الحق قد يعيش ذلك الدين (في فترة من تاريخه على الأقل) بصدق أعظم من شعب آخر أتيح له هدى أقوم. فما يكون لنا أن نتحدث عن الثقافة المسيحية على أنها أعلى الثقافات إلّا حين نتخيل ثقافتنا كما ينبغي أن تكون، لو أن مجتمعنا مجتمع مسيحي حقًا. إنما نستطيع أن نؤكد أنَّ هذه الثقافة هي أرقى ثقافة عرفها العالم في أي وقت حين نشير إلى جميع مراحل هذه الثقافة التي هي ثقافة أوربا. وحين نقارن ثقافتنا كما هي اليوم بثقافة الشعوب غير المسيحية فيجب أن نتوقع أننا سنجد ثقافتنا أحطُّ من ناحية أو أخرى. ولا أستبعد إمكان أن تزدهر في بريطانيا ثقافة أزهى مما نستطيع أن نقدمه اليوم، إن هي أتمت ردتها بإعادة تشكيل نفسها وفقًا لوصايا دين أحط أو دين مادي. ولكن ذلك لن يكون دليلًا على أن الدين الجديد حق، وأن المسيحية باطل. إنما يثبت أن أي دين، ما بقي، يعطي على مستواه معنىً ظاهرًا للحياة، ويقدم هيكلًا لثقافة، ويحفظ كتلة البشرية من الملل والقنوط.

Pages