مملكة غاردينا وجدت ولم تزل في دنيانا المعاصرة. وهي نموذج واقعي يحاكي كثيراً من أنظمة ودول العالم الثالث.
You are here
قراءة كتاب غاردينيا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
ليست إلا شعارات جوفاء...مجرد شعارات جوفاء...الإنسانُ إنسانان...والبشرُ بشران: بشرٌ مكرّمون، يحملهُم السحابُ وتقلهُم الأنهارُ والبحارُ إلى حيث شاؤوا...وبشرٌ ملعونون، تطؤهُم النعالُ وتشتمهُم الألسنُ ويسوقهُم القدرُ إلى البؤس والجحيم!...سامحكَ الربُ يا حنا...من أين أتيت بهذا الكلام؟...لم يقل يسوع مثل هذا الهُراء!...لم أقرأ مثل هذا الكلام في متى أو لوقا!...في مرقص أو يوحنا!...يا رافع القبُة الزرقاء اهد قلب البشر...واحْمنا مما يمكرون!...ماذا علينا أن نفعل إذا كنا فقراء لا حول لنا ولا قوة؟...أما آن للظلم أن ينتهي؟!...لقد سفكوا من الدماء ما يكفي!...ونهبوا من الخيرات ما يكفي!...لكن أكثر ما يغيظني هو أن الكذب على غيرهم عادة مقبولة...والتدليس على غير جنسهم عقيدة...ومبادئ الصدق والأمانة التي يتغنون بها لا تنسحب إلا على الأقوياء...أما الضعفاء فليس لهم قيمة أبدا ً...
بهذه الكلمات كان الشيخ يتمتم بصوت خافت! كلمات لم يعرف أحدٌ مغزاها، حتى المقرّبون منه والملازمون له.
صباح 10 أيلول (سبتمبر) 1815، كان سيئاً بامتياز، مغبرّاً وشديد الحرارة. ورياح السموم - كما يسمونها في الغرابة - تعصف بكل شيء يقف في طريقها، ما يضطرُ المرءَ أن يدرأ شرها بلثام يغطي أنفه وفمه بشكل كامل، ولا يميطه إلا بعد هدوء العاصفة. يدخل الشيخ أريب - أو الشيخ كما اعتادوا مناداته - إلى الخيمة التي يرقدُ فيها عددٌ من أبناء عمومته من قبيلة المكاسير، وهي قبيلة لم يعرف أحدٌ لها جذوراً في منطقة الغرّابة. إلا أن رعاية هذه القبيلة لمعابد أهل الغرّابة جعلت لها مكانة رفيعة بين قبائل المنطقة، رغم أن كثيراً من أبناء القبيلة لم يكونوا متدينين أصلاً، وكانوا يتعاونون سراً مع القبائل المعادية لبني جلدتهم، ومع الغزاة الأوروبيين الذين لم يخفوا أطماعهم بخيرات الغرّابة وحبهم تطويع قبائلها. فقد عُـرفت تلك المنطقة من جنوب الصحراء بوفرة النفط والمعادن الثمينة، وكانت محجاً تؤمه قبائل الطوارق وقبائل البربر الأمازيغية التي تعيش في المنطقة الشمالية المحاذية للغرّابة الشاسعة.
الغرّابة أرضٌ شاسعة مع فضاءٍ ملتهب. وسطحها لا يقلُ لهيباً عن جوفها المليء بالنفط والمعادن. فهي تقع في وسط المنطقة الجنوبية من الصحراء الحارقة. كانت ومازالت ملتقى لحضارات عدة: الإفريقية السواحلية التي نهلت من حضارات آسيا؛ والطوارق الشماليين التي اختلطت مع الحضارة الفرعونية واقتبست منها الكثير؛ والبربرية (الأمازيغية) من شمال غرب القارة، والتي شاركت اليونان والرومان بعضاً من ثقافتهم.
ويدين أهل الغرّابة بالمونوثونية (1) وينحدرون أصلاً من الأفارقة الحاميّين، ويتكلمون السواحلية. وهم قوم ذوو بأس شديد، علمتهم الصحراء أن يتكيفوا مع أسوأ ظروف الحياة المكتشفة على وجه البسيطة. وتتميز حياتهم بالقسوة والمعاناة المستمرة. فمنذ قدوم وليدهم إلى الحياة تبدأ معاناته منذ اللحظات الأولى، وذلك بالوسمة الحارقة التي يكويه بها أهله على كاحله الأيمن لتمييزه عن بقية البشر. وهذه الوسمة هي العلامة الفارقة لأهل الغرابة والممالك الحاميّة القريبة.
يبكي المولود الجديد بكاء المحترق من النار، ولا يعبر عن ألمه المبرح إلا ببكاء شديد، لكن الوسمة الحارقة لا تزيد ألماً عن لهيب الشمس الذي يُشعل الهواء والأنفاس. وإذا قدرت الحياة للذكر منهم بعد الوسمة الكاوية، فإنه يُـترك في رعاية أمه لمدة عامين فقط، ليذهب بعدها تحت رعاية أبيه، ومرافقته حتى يموت أحدهما، إما بانتصار الطبيعة عليه بالهرم أو المرض، أو الحرب أو الغزو، أو لدغة عقرب الصحراء الأسود، أو نهشة ثعبان المامبا المهاجرة في موسم القيظ من أواسط القارة.