كتاب " مجنون بن بيروت " ، تأليف فيصل فرحات ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب مجنون بن بيروت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مجنون بن بيروت
يوم التهديد الكاذب
فيما كنت أُشاهد برنامج "نايت لاين" خط الليل على تلفزيوني الصغير (الذي كان حجمه أكبر من صحن الفول بقليل) في غرفتي الصغيرة المطلة على الجزء الأعلى من "إمباير ستيت بلدنغ" في مانهاتن، وإذ بي أرى وأسمع السيد هنري كيسنجر يقول «على الهواء» بما معناه، إن على الحكومة الأميركية والرئيس جورج بوش (الأب) أن يصدرا الأوامر إلى الأسطول السادس لتدمير بيروت الغربية وبعلبك وسهل البقاع «اليوم» من دون حوار مع خاطفي الرهائن الأميركيين والغربيين في بيروت، الذين أعلنوا أنهم سيقتلون الرهائن خلال 48 ساعة، ثم عاد وكرر كلمته مؤكداً الهجوم العسكري وعدم الحوار مع الخاطفين!
فانتفضت في مكاني جالساً على الكرسي بدون أي «طعجة» (قاعد مستقيم) وضربت يديّ على «صابونتي» رجليّ وشددت عليهما ثم «صفنت»، وما عدت رأيت وما سمعت على مدى لحظات وأنا أنظر إلى اللاشيء الذي أخذني إلى دمار بيروت في ذاكرتي. ثم وبعد لحظات عدت إلى أرض الواقع ونظرت إلى التلفزيون، وسرعان ما تذكرت بعض الصور التي كنت قد رأيتها على التلفزيون الكبير قرب Alison آلسن) في منزل السيد هنري القديم في واشنطن منذ ست سنوات حين قصف الأسطول الجبل في معركة «سوق الغرب» عام 1983 بعد مقتل مئتين وخمسين جندياً من الجنود الأميركيين «المارينز» قرب مطار بيروت خلال عملية انتحارية بواسطة شاحنة كبيرة (سيكس ويل).
ومن تلك الصور تذكرت بوضوح صورة «تفحُّم» الأرض التي سوف لن تصلح للزراعة لعشرات السنين. حينئذ رفعت سماعة الهاتف وطلبت الاستعلامات وسألت عن رقم تلفون شركة ABC الإخبارية. وبعد ثوان سجلت الرقم ثم طلبته فردت امرأة سائلة كيف تستطيع أن تساعدني وماذا أريد؟ وقبل أن تنهي كلامها قلت بصوت عالٍ إني سمعت ما قاله السيد هنري كيسنجر منذ دقائق على شاشة المحطة، وأطلب منكم أن تقولوا للرئيس الأميركي ألّا يسمع كلام مستر كيسنجر الذي يقود أميركا إلى حيث قاد هتلر ألمانيا، ثم أضفت أني أعتقد أن هناك خمسين عملية انتحارية سوف تحصل في نيويورك وواشنطن إذا لم يتوقف الأسطول «الآن»!
حينئذ سألتني وكأنها تقاطعني بأنه إذا كان عندي معلومات عن موضوع الخطف فسوف تضعني «على الهواء». فأجبتها بسرعة بأن لديّ رأياً ومشاعر وليس لديّ معلومات. فردت بأنهم يتعاطون مع معلومات وليس مع رأي ومشاعر وبخاصة في مثل هذه الحالة. فعدت وكررت كلامي بلغة إنكليزية «مكسرة» لكن بلكنة نيويوركية وبكل ثقة معرباً عن خوفي من سوء ما قد يحصل ضد أميركا ولبنان في آن.
كما عدت كررت هجومي على السيد كيسنجر طالباً منها للمرة الثانية بأن لا يسمعوا رأيه ويقولوا للرئيس... وهنا قاطعتني قائلة أن عليّ أنا أن أقول للرئيس ما أقوله لها. وهنا انتبهت إلى الأمر وقلت لها شكراً مؤكداً أني سوف أسمع كلامها وأتصل بـ «البيت الأبيض»، وهكذا فعلت. إذ عدت واتصلت بشركة الاستعلامات وأخذت رقم تلفون «البيت الأبيض» واتصلت. رد عليّ رجل فأخبرته بما حصل وأنا لا أزال أشاهد على التلفزيون بعضاً من الصور والكلام. فقال لي إنه حارس ليلي وعليَّ الاتصال لاحقاً في الساعة التاسعة صباحاً. قلت له: O.K. وشكرته وأقفلت الخط واضعاً السماعة في مكانها وأنا شبه مذهول لأني قد بدوت له وكأني مجنون.
لا أذكر ماذا فعلت وليس ذلك بمهم، لكني أذكر أني قد ورطت نفسي في «معمعة» دوليّة. فاسودت الدنيا بوجهي وشعرت بالخوف والهلع. لكني سرعان ما عدت وقلت لنفسي: «المهم ما تتدمر بيروت وشو ما صار فيِّ يصير».
لاعناً حظي وحياتي!
لضيق المكان، كان عليَّ الجلوس على الكرسي أو الصعود إلى «التتخيتة» (التي بنيتها من الخشب على حسابي الخاص بمساعدة أحد العمال «المعمرجيّ» الذي سبق وعرفته في المبنى المقابل لغرفتي حيث كنت أعمل عامل تنظيفات)، أو الوقوف قرب الغاز الكهربائي الصغير الذي كان ذا عين واحدة حيث يوجد إبريق الشاي والسخانة و«كم غرض» من أواني الطبخ. فخطوت خطوة ونصف خطوة نحو المطبخ وحضّرت الشاي، ثم وبخطوة كبيرة ارتميت على كرستي ناظراً إلى اللاشيء. ولربما عدت ونظرت إلى التلفزيون أو خفضت صوته بعد أن انتهى البرنامج، مع الإبقاء على إشارة قطع الأخبار على أسفل الشاشة.
لففت سيجارة «ماريوانا»، وذهبت مسرعاً إلى الحمام المشترك في آخر الممشى الداخلي للبناية القديمة والصغيرة، ثم عدت وأغلقت باب الغرفة من الداخل وتناولت الفنجان الكبير وجلست مذهولاً على كرستي مدخناً السيجارة الثانية أو الثالثة وسرحت في خيالي. ثم بدأت أُعيد تكرار بعض الجُمل والتعابير التي سأقولها صباحاً على التلفون إلى موظفي «البيت الأبيض». كما كررت جُملاً أخرى سأقولها إلى معلمي مستر جان صاحب شركة النقل "موفينغ مان" التي أعمل فيها، طالباً منه أن يعطيني عنوان الشقة التي سأكون أحد عمالها بدلاً من الحضور باكراً إلى مركز الشركة، وذلك لأنه عليّ الاتصال بالتلفون مع أهلي في بيروت في الساعة التاسعة صباحاً، على أن أكون في التاسعة والنصف في الشقة كحد أقصى. مع ثالث «مجة» من السيجارة، تذكرت ما سبق لي وقلته إلى آلسن وإلى من حولي من أصدقاء أميركيين ولبنانيين في واشنطن بأن السوفيات وبخاصة أندروبوف هم المسؤولون عن العملية الانتحارية الكبرى ضد الأميركيين «المارينز» قرب مطار بيروت عام 1983، وليس الشيعة وإيران كما يُقال في الإعلام. وعليه، على الرئيس الأميركي ريغان أن يدعم بقوة مشروع «حرب النجوم» كي تستطيع أميركا تدمير موسكو من الفضاء ولا ضرورة للأساطيل والطائرات والصواريخ، بل بالنجوم. (وهذا ما دفع السوفيات لأن يأتوا بالسيد غورباتشوف لينادي بالإصلاح السياسي وبالسلام مع أميركا والعالم، قبل أن يفرطوا النظام لتبقى البلاد ولا تُدمر بأسلحة «النجوم» التي لم يكن للسوفيات أسلحة مضادة لها).
واليوم، بعد ست سنوات أعود لأقول للرئيس بوش (الأب) أن لا يسمع كلام كيسنجر، وعليه أن يضغط على إسرائيل كي تطلق سراح الشيخ عبد الكريم عبيد وتوقف الحرب في لبنان مقابل إطلاق سراح «الرهائن» في بيروت. مهدداً من باب الانتباه والحرص أن هناك عمليات انتحارية سوف تحصل في نيويورك وواشنطن إذا لم يتوقف الأسطول في عرض البحر. ثم كتبت على ورقة بأن بيروت هي مدينتي التي كبرت فيها وبعلبك هي المتحف التاريخي الكبير الذي زرته لمرة واحدة في حياتي وأريد أن أزوره للمرة الثانية يوماً ما، ولا أريد أي دمار له، كما وأني أنتمي إلى سهل البقاع واسم ضيعتي يحمر. خاتماً بأن السيد هنري كيسنجر يقود أميركا إلى حيث قاد هتلر ألمانيا، وبأني حاصل على غرين كارد green card ) وأنا أُحب أميركا مثلما أُحب لبنان، ولا أريد سوى وقف الحرب والسلام. وبعد أن أنهيت فنجان الشاي، صعدت الدرج الخشبي إلى فرشتي ونمت وما نمت على وجهي «طبّ».
في الصباح الباكر اغتسلت وحضّرت «ترويقتي» التي كانت غالباً من الجبنة الفرنسية أو الإيطالية مع الخبز «الفرنجي» والشاي مع العسل، وأنا أُشاهد التلفزيون حول آخر الأخبار عن «الرهائن» والاستعدادات العسكرية للأسطول. بعد أن أكلت أو قبل أن أنتهي من الأكل نزلت إلى الدكان واشتريت جريدة «النيويورك تايمز» على غير عادتي. (كنت أشتريها في منتصف الليل حين صدورها وأتصفح العناوين السياسية والثقافية قبل أن أنام، لكني البارحة وبعد أن اتصلت بالتلفون وهددت «بالحكي» رغبت أن أبقى في بيتي «ربع» غرفة ولم أكترث لشراء الجريدة ليل البارحة 4 آب 1989) ثم تصفحت العناوين متابعاً تناول طعامي وتمضية بعض الوقت قبل أن أتصل بـ «البيت الأبيض» عند الساعة التاسعة.