You are here

قراءة كتاب السجن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السجن

السجن

رواية " السجن " للكاتب السوري نبيل سليمان، نقرأ منها:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
ـ أعيدوا له ذاكرته.
خاطب النقيب رجاله ثم سعل وتابع:
ـ كنت أود أن أجنبك يا منحوس.
انتزعه أضخمهم جثة من الجدار، وقذف به في وسط الغرفة. لم يرتم. لقد كانت دفعة هائلة لكنه لم يرتم. وعجب لذلك، إلا أن قبضة أخرى، أكثر هولاً، لم تفسح له. هرست القبضة خده الأيمن هرساً، وأحس أن تشويهاً فظيعاً لحق بسحنته. حاول أن يتلمس الناحية التي لا تزال سليمة، فسبقته إليها خطبة ثالثة: هذا طعمكم جميعاً: خاطبتهم عيناه اللتان لم تكادا أن تقعا على النقيب ـ كان يبحث عنه بجنون، لغير ما سبب معروف ـ حتى كان قد انطرح فوق البلاط على قفاه، وقد أحس أن شيئاً في جوفه يتلوى ثم يتقطع. أراد أن يحمي بطنه بكفيه لكن الرجل الضخم، أولهم، شده من شعره، وأوقفه سوياً، فأيقن أن الدم قد تفجر من جلده رأسه، ثم شرع الآخران يهويان بمطارقهما فوق فكيه وصدغيه، بينما كان يحول شعره المشدود دون رغبته التي قاربت البكاء، في السقوط.
تكاثفت الرؤى أمام عينيه، فأبصر النقيب جالساً خلف مكتبه، يبتسم، ثم يضحك، ثم رآه قبالته تماماً، وعجب من أنه تدلى عقب ذلك مباشرة من المصباح الكهربائي الشحيح الذي يهتز فوق رأسه، وسط الغرفة، وازداد عجبه من أن النقيب لا يسقط رغم هذه الوضعية اللامعقولية، ثم أغمض عينيه وأذنيه، وابتعد عنهم، حتى وصل إلى قمة عالية، قبّلها وأشرف منها على جلادية، وهم يتعاركون بوحشية، فرثى لهم وللوهدة التي يتردون فيها، وأدهشه أن الأرض تخسف بهم، بينما تعلو به القمة وتنأى: أتراها كانت قمة جبل المرام؟
امتد به السؤال دهراً، قبل أن يفتح جفنيه على صوت النقيب يأمر:
ـ أنهضوه وهاتوه.
وقبل أن تتحسس أليتاه جيداً طعم المقعد، وتهشّا، سمع النقيب يخاطبه:
ـ ها أنت ترى أنك لم تتحمل وجبة واحدة. جسمك غض على الرغم من سنيك وشبابك. تعقّلْ يا مجنون. ماذا يجديك أن تنكر؟ نحن نعرف جيداً من أنت. نعرف دخولك الحدود. ونعرف من دبجّ ودبر الناشير اللعينة. لا تظن أنك أتيت شيئاً فاتناً. في الخميس الماضي، وفي الساعة السابعة أيضاً ـ أخذ يحتد ـ أين كنت؟ ألم تركب سيارة عابد حتى الجسر الجديد؟ وقبل ذلك بأسبوع أيضاً، ماذا أعطيته على طريق المطار؟
تذكر وهب بصعوبة، ومن خلال الألم الكثيف، أن النقيب قال له هذا الكلام أو ما يماثله منذ فترة غير بعيدة. وتذكر أنه فهم حينئذٍ سبب وقوعه في الفخ، وعرف الرفيق عابد كما لم يعرفه من قبل، وفجأة سأله النقيب:
ـ ألا تزال مصراً على أنك وهب فقط؟
ثقل الضيق على صدره. هل يجهل الإنسان هويته بعد أربع وعشرين سنة؟ لماذا كل هذا التزوير ـ سأل سقف الغرفة ـ لست أدوار يا سيادة النقيب. بماذا تريد أن أقسم لك. أبي هو عفيف المختار وأمي هي نجمة وقريتي على دقائق في سيارتك من هنا.
قذف وهب بهذا كله دفعة واحدة، وكان يحسّ أن كلامه يخرج ممتزجاً بنثار بصاقه المشوب بخيوط باهتة الحمرة، كما أن حركة فكيه سببت له وجعاً، أسرع في إسكاته.
لكن النقيب أصرّ: لاشك أنك مخطئ يا وهب. النقيب أدرى بك من أبيك وأمك. إنه أدرى بك منك. ولقد آن لصبره أن يفرغ حقاً، فعنادك مغيظ، بل مهين.
ـ حيوان. لا ينفع معك الكلام. ألا تعرفون ماذا ينفعه؟ خذوه إلى الصالون الداخلي.
خاطب النقيب رجاله، فنهض وهب وحده. قبل أن يصلوا فعل ونوى أن يسير. ولو كان يدري أين يقع الصالون الداخلي لهرع إليه لكن إخلاصه وطواعيته لم تمنعا عنه أذى الطريق.
خرج من الغرفة، وعبر ممراً ضيقاً، مع الركلات التي كانت تتقاذفه بين الجدارين. وكانت الظلمة تشتد كلما أوغلوا، حتى إذا ولجوا باب الصالون باغته نور باهر. وتعجب من فساحة المكان، كما راقت له الجدران المزدانة بما يجهل. طرحوه أرضاً، وداعب أحدهم رأسه بطرف حذائه، غير متلطف، ثم دحرج آخر من الزاوية دولاباً أوقفه جسم وهب الذي صار يحس بالانفصال عما حوله شيئاً فشيئاً. أراد أن يتفرج عليهم. أدخلوا رجليه في الدولاب، ثم كوروه جيداً، وحشروا رأسه. حسد نفسه لأنه نحيف. لا ريب أن (مسعد) عانى أكثر بسبب سمنته. اكتشف أن خاصية المرونة فيه عالية. صار يتدحرج الآن من الدولاب. أضحكته اللعبة، كما أدمت قلبه، وأثارت الضحكة التي لم تتعد شفتيه غيظ الرجال. تناولوا جميعاً الخيزرانات وشرعوا يتسابقون إليه. كانت قدماه في البداية الفضليين لكن جسمه بأجمعه صار يستهويهم. حتى رأسه استمال خيزراناتهم الملتهبة. وكأن استغراقهم بالعمل كان يشحذ همتهم ويفجر إبداعات جديدة. غاضت الضحكة من قلبه. وتقبض صدره، وعرف أن أضلاعه تتحطم، فخشي أن يدخل أحدها في كبده أو في فؤاده. لم يعد المكان فسيحاً. ولم تعد زينة الجدران معجبة. أطبق الكلح حتى غطى عينيه ورأسه، ثم عمّ أنحاء جسمه، وما إن غلف السواد كل شيء، حتى كان الألم قد نفذ، وكان عناده قد اكتمل، أما أيدي الرجال فكانت لم تكلّ بعد. وعندما أفاق بعد زمن، لقي نفسه غارقاً في الماء، كما تحسس دماً طرياً خلل أسنانه، وفي باطن جفنيه، وأراد أن يتخلص من الدولاب، لكن صوت النقيب قطع عليه محاولته:
ـ سأغيب قرابة الساعة، عندما أرجع يجب أن يكون قد اعترف أو انتهى. مفهوم؟
فجلجل صوت الرجال الثلاثة:
ـ حاضر سيدي.
وحينئذٍ أرخى وهب جفنيه.

Pages