كتاب " الوسطية الحضارية - تحديات الفكرة والحركة " ، تأليف د. رفيق حبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب الوسطية الحضارية - تحديات الفكرة والحركة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الوسطية الحضارية - تحديات الفكرة والحركة
الفصل الأول
الوسطية: مشـروع للنهضة
( 1 )هل نحن أمة وسط ؟
عندما نسأل عن هوية الأمة العربية والإسلامية، يكون السؤال عن طبيعة هذه الهوية وما يميزها؛ مما يصل بنا إلى معرفة الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، والقواعد الحاكمة لها، والنظام العام الذي يترجم قيمها الحضارية في الحياة. وسؤال الهوية ليس سؤالاً نظريًّا، بل سؤال عن الحاضـر والماضـي والمستقبل؛ لأنه ببساطة سؤال عن الطريق التي يجب أن نسلكها حتى نحقق الحياة التي تناسبنا وترضينا وتحقق ما نتمناه لمستقبلنا. فإذا عرفنا الأسس التي تقوم عليها حياتنا المعاصـرة، والتي قام عليها تاريخنا الحضاري، تمكنا من معرفة أفضل طريق لتحقيق مستقبل ناهض للأمة.
وسؤال الهوية، يظهر في لحظات الضعف والتراجع الحضاري، وفي اللحظات التي تواجه فيها الأمة تحديات خارجية تتمثل في العدوان الخارجي، وتحديات داخلية تتمثل في الاستبداد والفساد والتحلل الداخلي والتفكك والفتن والحروب الأهلية. وعندما تمر الأمة بأزمة، يصبح سؤال الهوية هو محاولة لإعادة تعريف الذات؛ حتى يتم بناء الذات الحضارية للأمة من جديد، وبالتالي تدخل الأمة في مرحلة جديدة من النهوض والتقدم. وعندما يظهر سؤال الهوية في لحظة الضعف، تتميز الإجابات بحالة صـراع داخلي، وصـراع مع القوى المهيمنة والأنظمة الحاكمة، أي تتميز محاولة الإجابة بصـراع مع الوضع القائم؛ لأن محاولة إعادة اكتشاف الهوية، هي محاولة لتغيير الواقع الراهن، مما يجعلها حالة نضال ضد كل القوى التي تسيطر على هذا الواقع، وتحاول الحفاظ عليه، ومنع كل محاولات تغييره.
سؤال الهوية أيضًا، يكون في لحظات القوة مجرد تحصيل حاصل، فالهوية معروفة ومطبقة ومتجسدة في واقع معاش، أما في لحظات الضعف والتراجع الحضاري، فيكون الواقع المعاش ممثلاً لحالة اضطراب واضح في إدراك الأمة لهويتها. يظهر هذا في حالات تفتيت الهوية والتي تظهر لدى بعض الجماعات، وهي محاولات للخروج من الهوية الجامعة، ويظهر هذا في ما تتعرض له الأمة من محاولات للهيمنة الحضارية الخارجية، أي محاولات التغريب؛ مما يؤدي إلى حالة اضطراب في وعي الأمة بذاتها.
وإذا أردنا معرفة هوية الأمة، يكون علينا النظر إلى الأمة نفسها. فمهما كانت درجة التراجع الحضاري، أو الضعف الداخلي، أو اضطراب القيم، فسنجد قيمًا أساسية تمثل المثل الأعلى للأمة، وهي قيم وجدت في الماضي، وما زالت توجد في الحاضـر، رغم عدم الالتزام الكامل بها، ورغم أنها لا تتحقق على أرض الواقع بوصفها قيمًا عليا حاكمة. فنحن لا نبحث عن هوية نستمدها من التاريخ ثم نعيد إنتاجها، ولكن نبحث عن هوية الأمة في وعيها الجمعي، ثم نعيد دورها وتأثيرها، لتصبح المنظم الأساسـي للحياة، وتصبح المحرك الأساسـي لفعل النهضة.
بهذا المعنى نرى أننا، كأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، نملك حضارة تميزنا ولها خصائصها الأساسية، والتي نكتسب منها هويتنا، ويتحدد من خلالها تعريفنا. وفي تصورنا يمكن تعريف الحضارات من خلال نظام القيم، أي مجموعة القيم الأساسية التي تمثل الحكم الأعلى المنظِّم لسلوك الناس ولقواعد الاجتماع البشـري، وللنظام السياسي، ولقواعد النهوض والتقدم. وتلك القيم تميز بين حضارة وأخرى، حيث تختلف أولوية كل قيمة ومعناها ودلالتها وكيفية تطبيقها في الحياة، بين الحضارات.
والتصور الذي نطرحه، هو أننا أمة الوسط، وأننا ننتمي لحضارة الوسط. ونعني بهذا أن الحضارة التي ننتمي لها تتميز بعدد من القواعد والقيم تجعلها تمثل نموذجًا حضاريًّا له خصائص تجعله نموذج الوسط الحضاري، عندما يقارن بنماذج حضارية أخرى. فنحن نمثل الوسط الحضاري في التاريخ البشـري للحضارات. وتلك الخاصية، والتي لا نرى أنها تفضيل لنا عن غيرنا، تمثل حجر الزاوية في فهم هويتنا الحضارية، ذلك الفهم الضـروري لتحريك فعل النهضة في حياتنا. قصدْنا من هذا القول إن الحضارة الإسلامية، هي حضارة الوسط، وأن كل المنتمين للأمة الإسلامية ينتمون لتلك الحضارة، وأن كل الثقافات والهويات الفرعية، وكل ما أقامته من حضارات عبر التاريخ، تنتمي في مجملها إلى حضارة الوسط. نقصد من هذا مثلاً، أن الهوية المصـرية وكل تراثها الحضاري، هي جزء من الهوية العربية، والأخيرة جزء من الهوية الإسلامية؛ لأنها كلها قامت على منظومة قيم الوسط، بوصفها واحدة من الاتجاهات الحضارية في التاريخ البشـري.
فهل نحن بالفعل أمة الوسط؟ وهل كنا وما زلنا أمة الوسط؟ هذا هو السؤال. والسؤال له أكثر من جانب، فهو يدور حول مدى صحة اعتبار منظومة القيم الحضارية التي ننتمي لها، بأنها قيم الوسط، وما معنى ذلك. والشق الآخر من السؤال، يدور حول استمرار الأمة في الانتماء لتلك المنظومة من القيم، في الماضـي والحاضـر، لدرجة تجعلها هوية الأمة في مستقبلها القادم.