كتاب " جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟
You are here
قراءة كتاب جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
II التفكيك: المصطلح
1. علم الكتابة
يرتكز دريدا في إستراتيجية التفكيك على مرتكزات، ومقومات تسهل الولوج إلى عالم الأدب. ففي مواجهة ما يصطلح عليه دريدا بـ: ميتافيزيقا الحضور التي هيمنت على أنظمة الفلسفة الغربية، والتي تكونت بفعل التمركز حول العقل المستند إلى التمركز حول الصوت؛ يعتمد هنا على الغراماتولوجيا: والمقصود بهذا المصطلح: علم الكتابة. وهو عنوان أحد كتبه المهمة كما ذكرنا سابقا. ويذهب دريدا من خلال هذا الطرح مذهب المؤسس لنسقية جديدة، تدعو إلى الاختلاف، والتعدد خلاف سابقتها التي نحت منحى التمركز حول العقل. وعليه نلاحظ أن كبار الفلاسفة والمفكرين كأفلاطون، وأرسطو، وهيدغر، وليفي شتراوس، وروسو، ودو سوسير. ومن خلال تفكيكه لكتاباتهم، تنبه إلى أن النزعة الغربية قامت على ميتافيزيقا الحضور التي «لم تنجح في إنسائنا الكتابة، وبالتالي فرض المغالطة... وهي ربما كانت ممتزجة بهذا التاريخ الذي يجمع التقنية بالميتافيزيقا المتمركزة لوغوسيا، أو العقلانية، التمركز منذ ما يقرب ثلاثة آلاف سنة» (52).
وبهذا يتأكد طرح دريدا في نقض، ورفض هذا التمركز الذي ظل مسيطرا حينا من الدهر، وبنى للكلام على حساب الكتابة صروحا من الدلائلية تعالت أيما تعال، وبذلك غدت: «تسمية لغة تطلق على كل من الفعل والحركة، والفكر والتفكير، والوعي واللاوعي، والتجربة والعاطفة...إلخ. ونحن نواجه اليوم نزوعا لإطلاق تسمية كتابة على هذه الأشياء جميعا وسواها: لا لتسمية الحركات الجسمانية التي تستدعيها الكتابة الحروفية، أو التصورية، أو الإيديوغرافية فحسب، وإنما كذلك على كل ما يجعلها ممكنة» (53).
إذا فدريدا يقيم صرحا للكتابة على حساب الكلام، ويعطيها مجالا واسعا يتعدى الخط الكتابي إلى «كل ما ينشره هذا الخط في الفضاء غريبا على نظام الصوت البشري كأن يكون سينمائيا مثلا، أو رقصيا، أو نحتيا. إلخ... هكذا سنقدر اليوم أن نتحدث عن كتابة رياضية من الرياضة، وبثقة أكبر من كتابة عسكرية، أو سياسية، إذا ما نحن فكرنا بالتقنيات المتحكمة اليوم، بهذه الميادين... بهذا المعنى أيضا يتحدث عالم الأحياء البيولوجي عن كتابة، وعن برنامج عندما يريد الإشارة إلى السياقات الأكثر أولية للمعلومات الصادرة عن خلية حية» (54). هذا هو المجال الواسع بكل ما يحمله من دلالة، المجال المطلق الذي عمم به دريدا الكتابة. ونجده يميز هنا أيضا بين نوعين من الكتابة، كتابة تتكئ على التمركز المنطقي، وهي التي تسمى الكلمة كأداة مصوتة/أبجدية خطية، وهدفها توصيل الكلمة المنطوقة. وكتابة معتمدة على النحوية، أو كتابة ما بعد البنيوية، وهي ما يؤسس العلمية الأولية التي تنتج اللغة (55). وهي كتابة حداثية، بل ما بعد حداثية تعتمد على «عدمية الصوت، وليس للكينونة عندئذ إلا أن تتولد من الكتابة، وهي حالة الولوج إلى لغة الاختلاف، والانبثاق من الصمت، أو لنقل إنها انفجار السكون» (56).
2. الاختلاف
ومن جملة المرتكزات التي قام عليها دريدا في تفكيكيته أيضا ما اصطلح عليه بـ: الاختلاف "La Difference" ودلالته المعجمية تنبئ «بهضم فيه دلالات مجموعة من المفردات فثمة "To differ" ويدل على المغايرة والاختلاف وعدم التشابه في الشكل، "To defer" وهي مفردةلاتينية توحي بالتشتت والتفرق، "To difer" ويدل على التأجيل والتأخير والإرجاء والتعويق» (57). وبالتالي فإننا نلاحظ مدى تداخل هذه الدلالات في ملفوظ واحد؛ حيث اختزل كل هذه الدلالات في دلالة واحدة تنبئ بتعدد في المعنى. ينزع دريدا في هذا إلى صنع وابتكار كلمة جديدة في اللغة الفرنسية لم يستقها لا من المعاجم، ولا من القواميس، بل ركبها بنفسه حينما أدخل على كلمة "Différence" بدل حرف الـ "e" حرف الـ "a" لتصبح الكلمة بعد اصطناعها "Différance" . لنجد في آخر المطاف أن وضع دريدا لهذا المصطلح قد أفاد اللفظة بدلالتين بدل الواحدة:
1. أولاهما: قابليتها لتضمن معنيين لفعلين مختلفين: أحدهما بمعنى الاختلاف، والآخر بمعنى الإرجاء.
2. ثانيهما: هو الإفادة من تلاعب هذه اللفظة الجديدة بثنائية الصوت والكتابة؛ حيث تلفظ كلمة "Différance" بالطريقة الفونيتيكية نفسها التي تلفظ بها لفظة الاختلاف الدارجة بحرف (الـ e بدل الـ a ) ولا يتسنى التفريق بينهما إلا بالاحتكام إلى الكتابة (58). فما هي دلالة الـ "Différance" إذاً؟
يتساءل الكثير من الدارسين عن الاختلاف مع ليتش (Leitch) الذي نقل تعريف دريدا للاختلاف بقوله: إن الاختلاف ليس كلمة، كما إنه ليس مفهوما فما هو إذاً؟
فيجيب دريدا في كتابه الكلام والظاهرة : نحن نعني بالاختلاف الإزاحة التي تصبح بوساطتها اللغة أو الشعر (code) ، أو أي نظام مرجعي عام ذي ميزة تاريخية عبارة عن بنية من الاختلافات (59). ومن خلال هذا الطرح يؤسس دريدا من جديد مرتكزا آخر للتفكيكية كاستراتيجية في قراءة النصوص، والمتمثل في لا نهائية الدلائل. لأنه طريق الاختلاف في المعاني، والكلمات في النص هي اختلاف في الإشارات بين كلمة وأخرى، وبهذا الاختلاف تتولد دلالات مستمرة للمعاني. لا بسبب تقرير دلالاتها، وإنما من اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى، ولما كانت هذه المعاني لا تعرف الثبات والاستقرار فإنها تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف (60). وبالاختلاف، والتأجيل تصبح دلالة الاختلاف تنتظم حول قطبين دلاليين أساسيين هما الاختلاف والتأجيل... لكن هذين القطبين لا يؤسسان لفكرة التوازي في منهج التفكيك، لكونه يهدف إلى تقويض الثنائيات التي أرستها الميتافيزيقا (61).