You are here

قراءة كتاب رجل من الشر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رجل من الشر

رجل من الشر

كتاب " رجل من الشر " ، تأليف إبراهيم الشامي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

(4)

سارت الأيام سريعةً بيني وبين يوسف وغطت سماءنا الإلفة واللهو إلى منتصف الليالي.

تمنّيت أن يعتذر عن تركه لي ذلك اليوم، لكنه لم يفعل. وخاب ظني به كما خاب ظني بزمان أعيش فيه.

انتهت إجازة يوسف وبدأ يرتب شقته للرجوع إلى مدينة الزحام، واقترح أن نذهب لاحتساء كأس صباحية قبل سفره. وافقت على مرافقته ساعة واحدة كي ألحق بعدها بموعد يرتبط بعملي، وترافقنا إلى مكان قريب من فندقنا والتففنا حول الطاولة نتحدث عن سحر هذه المدينة الرائعة. لم يكن في المكان أحد غيرنا. خطرت لي فكرة أن أوهمه بأن هاتفي يرن وأنني أكلّم والدي الذي اتصل مطمئناً إلى سلامتي.

وصلت كأس يوسف ملأى ثلجاً، ويغطي قاعها بعض من لون زاهٍ كدت أشعر بمرارته من خلال تعابير قسمات وجهه حينما كان يرتشف منه غاصاً بقهقهة تنمّ عن اللامبالاة:

- أما زال والدك يطمئن إليك، ألست كبيراً بما يكفي؟

ابتسمت مصطنعاً جواباً:

- يسأل عندما يحتاج إليّ؟

أتبعته بسؤال كان لُبّ مسرحيتي:

- أحزنتني قصتك وكنت أفكر ماذا عليك أن تفعل أنت وأخوك وأمك من بعده؟

انتهى من كأسه التي بين يديه وطلب أخرى. تنهد تنهيدةً ممزوجة بمرارة السنين وكأنها ما زالت جرحاً لم يلتئم يؤرّق حياته بين الفينة والأخرى.

التفت إليّ:

- عشنا أنا وإخوتي كحيوانات ضالة تلتفت حولها دوماً من الخوف، ويرعاها الطريق ويلملمها جناح الظلام ثم ينشرها نور الشمس بحثاً عن قوت تصمد به أمام الجوع والموت. يسودنا التلاحم خوفاً من برق الفرقة، ويفرقنا اقتسام الخبز على يد أمي ليحصل كل منا على أكبر قدر. كانت تقودنا النجوم في عالم التيه، وتغري مسامعنا آهات الصدى علّه النجاة؛ تتشقّق أقدامنا سيراً خلف السراب باحثين عن أمل مفقود لا نعرفه، تتلقفنا جنبات الطريق من التعب لترسم لنا وعوداً بسعادة ستكون صديقة لأحلامنا التي راحت تختفي، والأشباح تطاردنا وتهزأ من خطواتنا وتصرخ في آذاننا أن طريقنا مسدود، ونحن ما زلنا نسير...

وصلت كأس يوسف هذه المرة مختلفة عن الأولى. كانت صغيرة طافحة من دون ثلج تعلوها شريحة من ليمون؛ خشيتُ أن تفسد الحموضة مزاج يوسف ويتوقف عن الحديث ويقتل فضولي.

جرع يوسف كل ما في الكأس مرة واحدة وعالج مرارتها - كما بدا لي - بقطعة الليمون، ثم طلب أخرى وهو ينظر إليّ وتابع:

- تناسقت أحزاني وحفظت أدوارها، لم تسبق إحداهن الأخرى بل تواطأت كلها لتعذيبي.

- مع مولد كل يوم جديد تشتاق إليّ المزرعة وتتلهف الأشواك لتقتات بدمي، تحتضنني الصناديق وأنا أملأها خضاراً وعرقاً وعمراً يذبل كالزهور، ثم أرافقها إلى السوق؛ تستعجلني قدماي لألحق بالمدرسة حيث لا أعرف سوى اللوح الأخضر وذرّاتِ الطبشور المتطايرة وأشخاص يدخلون ويخرجون يلقون على مسامعنا تعاليم الحياة الكريمة وزملائي جالسون على أريكة الضحكات بلا هموم تلاحقهم - مثلي - صباح مساء.

تتقطع تأملاتي مع دقّ جرس الخروج ليسرع التلاميذ بابتسامة بريئة يتسابقون إلى بيوتهم، وأتسابق أنا مع لملمة دفاتري لألحق بالسوق لئلا يوبّخني ذلك الحقير.

أنتظر المساء حتى أعود إلى بيتنا الذي كانت جدرانه المتشققة تزيد تعاستي. أتأمل الطرقات وأشتمّ رائحة اللحم الذي لا أعرف طعمه؛ أتوقّف أمام المطعم كي أشبع رائحة ثم أواصل السير؛ تكتمل أحزاني برؤية وجه أمي الشاحب ونظرة إخوتي البؤساء، الذين كانوا ينظرون إليّ وكأنهم ينتظرون طعاماً جمعته من بقايا السوق، كنت أحرم نفسي منه خشية أن تبيت أمي وإخوتي بلا طعام.

كنت أرى سحابة الكآبة تتبدد وقطرات الفرح تهطل في دنيا أحزانهم على قُمامة السوق. وكم كانت أمي سعيدة وهي تكشط الفاسد وتوزعها علينا!

ألقي جسدي المتهالك بعدئذ على فراش لم أعد أهتم بسوئه، تسرق بعد ذلك أجفاني لحظة عناق بعضها مع بعض، تفترق شفتاي وهما ترددان سيمفونية الشخير من جراء التعب، وتتساقط يداي ورجلاي كأوراق الشجر ولا حراك لي حتى الفجر.

تكاثرت كؤوس يوسف حوله وكدت أوقفه لكنّ فضولي منعني.

تابع يوسف:

- كنت لا أعرف لماذا لم أترك الدراسة لأهلها وأتفرغ للشقاء. كل ما أعرفه أن صديق أبي نصحني بذلك رغم أنني لم أفهم تلك النصيحة وقتئذ، إلا أنني قررت أن أستمر ولو كلفني ذلك أن أقف على أبواب الجوامع.

أخذ رشفة من إحدى كؤوسه التي لم يعد يميزها واستلهم ضحكة لا أعرف لها شبيهاً وراح يلعن كل شيء وقد امتلأت عيناه أسى وازدادتا حدة، وتابع يقول:

- سقط هيلمان عزيمتي من أول طارق لبابنا يمد لنا بقايا طعامه صدقة لنا ويمسح على رأس أخي يستعطف بها رب السماء.

لم أستطع بعد ذلك النظر إلى وجه من أطعمنا إلا نظرة مكسورة ألحقها بنظرة إلى الأرض خجلاً.

وحدث ما لم يكن في الحسبان.

لم أكن كبيراً لأحمل كل تلك الهموم ولا ناضجاً لأقاوم الألم وأستوعب القدر. اكتشفت أن صاحب المزرعة يراود أمي عن نفسها ويعرض عليها المال ويذكّرها بأفضاله عليها وعلى ابنها. لا أعرف كيف كانت تفكر أمي وماذا ستفعل؟ كل ما يشغلني ماذا سأفعل أنا؟

لم أستطع النوم تلك الليلة ولم أتحمّل مرارة البكاء. لم أستطع إيقاف تفكيري في الانتقام. رسمت طريقة للانتقام، توقفت دموعي عن السقوط وبدأ عرقي بالتساقط من جبيني، قرّت عيني بعد ذلك، بدأت أخطط للموعد المرتقب.

عرفت الآن أن في تلك اللحظة كان الخير والشر يصفقان لي ويستحثانني على الانتقام ويستعجلان ذلك اليوم. لم أذهب إلى المدرسة. سرقت سكيناً وحيداً كان في بيتنا وجلست أنتظر ذلك الحقير. انتهى اليوم ولم يأتِ. انخفضت حرارة الانتقام ليلاً بعدما قررت المواصلة غداً، وفعلت ما فعلته بالأمس. وجاء الحقير يقرع الباب وبدأ يتكلم مع أمي يستعطفها تارةً ويهدّدها تارةً أخرى. جهزت السكين الذي لا يقتل أحداً ولصغر سني توقعت أن يقتله ويُخرج أمعاءه. اجتمع الغضب في داخلي وساندته كل مشاعري وبراءتي، وانطلقت باندفاع وبكل ما أملك من قوة طفل غاضب وغرست السكين في ظهره. لكن بالكاد وصل السكين إلى ما فوق حوضه، أدخلته قدر ما استطعت، سمعت ضجّة تتراقص في داخلي فرحاً وأنا أرتجف من الخوف. كانت يدي تتصبب عرقاً يلوثها دم تطاير من ذاك الحقير، فتراجعت بعدما ازداد انتشار الدم في كل مكان.

أسقطت السكين من يدي وفرائصي ترتعد. أسرعت أمي تضمّني وهي تنتحب بشدة، اختلطت دماؤه بملابسي الممزقة وبملابس أمي. كل ما أذكره أن الضجّة التي في داخلي هدأت.

لم تسقط دمعة من عيني، لم أعرف أهي رهبة السقوط أم راحة الرضا؟

سكت يوسف طويلاً وعيناه تقلبان كأساً تحركه يداه وتابع يقول:

- وقفت طويلاً أنظر إلى كل شيء. كنت أحسب أنني في حلم سأستفيق منه في الصباح.

كل ما أصابني ذلك اليوم أنني أحببت الدم. لقد شبعت عيناي منه. أعشق لونه وأتعطش إليه وأشتاق إلى رؤية غزارته وتطايره حتى حين يتخثر ويزداد لونه دكنة.

ثم جرح نفسه بطريقة هستيرية عنيفة فسال الدم من إصبعه وهو ينظر إليه ويردد:

- أعشق هذا اللون. انظر إليه، إنه متعة الألوان. ثم أخذ يلعق الدم عن إصبعه.

لقد امتلأ قلبي خوفاً من يوسف ولم أعد أعرف ماذا أفعل.

ارتفع صوت يوسف وهو يلعن صاحب المزرعة مرة ومرتين. ثم راح يلعن المدرسة وشركته التي يعمل فيها وأباه وأمه والدنيا بأسرها. حاولت كبح جماحه دون جدوى، والنادل ينظر إلينا وابتسامته تعلو محياه مبتهجاً بعدد الكؤوس التي استهلكها يوسف.

أنهيت يومي وعملي كيفما اتفق. ثم سافر يوسف وبقيت وحيداً أسترجع ما سمعته منه صباحاً، أتأمل في القصة وكأنني أقف بعيداً لكن أسمع كل الأصوات. أنظر إلى كل شي. أنظر إلى أمه وهي تركض نحو ابنها قبل غرس سكينه في صاحب المزرعة، وكأنني أسير بينها وبينه وهي تضمّه قرب الرجل المطعون الذي سقط أرضاً، وكأنني أتلمس أيضاً بقع الدم التي تخثرت على الجدار بيدي، وأسترق نظرة رحمة إلى طفل يتأمل ما فعله.

لم أرَ الخير والشرّ هناك وهل من كان يستحثه على فعل ذلك؟؟

لا أعرف هل اتفق الخير والشرّ أخيراً؟

لم أسمع ضجة بكاء أم يوسف.

لا أخفي عليكم، لقد أحببت الدم ولونه الذي أصبح لوني المفضّل منذ ذلك اليوم.(4)

سارت الأيام سريعةً بيني وبين يوسف وغطت سماءنا الإلفة واللهو إلى منتصف الليالي.

تمنّيت أن يعتذر عن تركه لي ذلك اليوم، لكنه لم يفعل. وخاب ظني به كما خاب ظني بزمان أعيش فيه.

انتهت إجازة يوسف وبدأ يرتب شقته للرجوع إلى مدينة الزحام، واقترح أن نذهب لاحتساء كأس صباحية قبل سفره. وافقت على مرافقته ساعة واحدة كي ألحق بعدها بموعد يرتبط بعملي، وترافقنا إلى مكان قريب من فندقنا والتففنا حول الطاولة نتحدث عن سحر هذه المدينة الرائعة. لم يكن في المكان أحد غيرنا. خطرت لي فكرة أن أوهمه بأن هاتفي يرن وأنني أكلّم والدي الذي اتصل مطمئناً إلى سلامتي.

وصلت كأس يوسف ملأى ثلجاً، ويغطي قاعها بعض من لون زاهٍ كدت أشعر بمرارته من خلال تعابير قسمات وجهه حينما كان يرتشف منه غاصاً بقهقهة تنمّ عن اللامبالاة:

- أما زال والدك يطمئن إليك، ألست كبيراً بما يكفي؟

ابتسمت مصطنعاً جواباً:

- يسأل عندما يحتاج إليّ؟

أتبعته بسؤال كان لُبّ مسرحيتي:

- أحزنتني قصتك وكنت أفكر ماذا عليك أن تفعل أنت وأخوك وأمك من بعده؟

انتهى من كأسه التي بين يديه وطلب أخرى. تنهد تنهيدةً ممزوجة بمرارة السنين وكأنها ما زالت جرحاً لم يلتئم يؤرّق حياته بين الفينة والأخرى.

التفت إليّ:

- عشنا أنا وإخوتي كحيوانات ضالة تلتفت حولها دوماً من الخوف، ويرعاها الطريق ويلملمها جناح الظلام ثم ينشرها نور الشمس بحثاً عن قوت تصمد به أمام الجوع والموت. يسودنا التلاحم خوفاً من برق الفرقة، ويفرقنا اقتسام الخبز على يد أمي ليحصل كل منا على أكبر قدر. كانت تقودنا النجوم في عالم التيه، وتغري مسامعنا آهات الصدى علّه النجاة؛ تتشقّق أقدامنا سيراً خلف السراب باحثين عن أمل مفقود لا نعرفه، تتلقفنا جنبات الطريق من التعب لترسم لنا وعوداً بسعادة ستكون صديقة لأحلامنا التي راحت تختفي، والأشباح تطاردنا وتهزأ من خطواتنا وتصرخ في آذاننا أن طريقنا مسدود، ونحن ما زلنا نسير...

وصلت كأس يوسف هذه المرة مختلفة عن الأولى. كانت صغيرة طافحة من دون ثلج تعلوها شريحة من ليمون؛ خشيتُ أن تفسد الحموضة مزاج يوسف ويتوقف عن الحديث ويقتل فضولي.

جرع يوسف كل ما في الكأس مرة واحدة وعالج مرارتها - كما بدا لي - بقطعة الليمون، ثم طلب أخرى وهو ينظر إليّ وتابع:

- تناسقت أحزاني وحفظت أدوارها، لم تسبق إحداهن الأخرى بل تواطأت كلها لتعذيبي.

- مع مولد كل يوم جديد تشتاق إليّ المزرعة وتتلهف الأشواك لتقتات بدمي، تحتضنني الصناديق وأنا أملأها خضاراً وعرقاً وعمراً يذبل كالزهور، ثم أرافقها إلى السوق؛ تستعجلني قدماي لألحق بالمدرسة حيث لا أعرف سوى اللوح الأخضر وذرّاتِ الطبشور المتطايرة وأشخاص يدخلون ويخرجون يلقون على مسامعنا تعاليم الحياة الكريمة وزملائي جالسون على أريكة الضحكات بلا هموم تلاحقهم - مثلي - صباح مساء.

تتقطع تأملاتي مع دقّ جرس الخروج ليسرع التلاميذ بابتسامة بريئة يتسابقون إلى بيوتهم، وأتسابق أنا مع لملمة دفاتري لألحق بالسوق لئلا يوبّخني ذلك الحقير.

أنتظر المساء حتى أعود إلى بيتنا الذي كانت جدرانه المتشققة تزيد تعاستي. أتأمل الطرقات وأشتمّ رائحة اللحم الذي لا أعرف طعمه؛ أتوقّف أمام المطعم كي أشبع رائحة ثم أواصل السير؛ تكتمل أحزاني برؤية وجه أمي الشاحب ونظرة إخوتي البؤساء، الذين كانوا ينظرون إليّ وكأنهم ينتظرون طعاماً جمعته من بقايا السوق، كنت أحرم نفسي منه خشية أن تبيت أمي وإخوتي بلا طعام.

كنت أرى سحابة الكآبة تتبدد وقطرات الفرح تهطل في دنيا أحزانهم على قُمامة السوق. وكم كانت أمي سعيدة وهي تكشط الفاسد وتوزعها علينا!

ألقي جسدي المتهالك بعدئذ على فراش لم أعد أهتم بسوئه، تسرق بعد ذلك أجفاني لحظة عناق بعضها مع بعض، تفترق شفتاي وهما ترددان سيمفونية الشخير من جراء التعب، وتتساقط يداي ورجلاي كأوراق الشجر ولا حراك لي حتى الفجر.

تكاثرت كؤوس يوسف حوله وكدت أوقفه لكنّ فضولي منعني.

Pages