كتاب " سقوط " ، تأليف عوض مبارك ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب سقوط
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
سقوط
المنحدر الأوّل
ماء ونار
(الكبرياء تسبق السقوط).
مثل يوناني
(1)
أيقظتني فرقعة رعد قوية في الصباح الباكر، هببت واقفة وسرت نحو الشرفة المطلة على ساحة المبنى، ألقيت نظرة إلى السماء فإذا بها شديدة القتامة، تنبئ بيوم ماطر طويل. كان الهواء بارداً ومشبعاً بالرطوبة، ورذاذ ناعم يتساقط، وغناء خافت لبلبل ينبعث من أجمة اللوز الواقعة خلف شقتنا، وقفت للحظات أستنشق الهواء وأستمتع بقطرات الماء وهي تنقرني نقراً لطيفاً على وجهي وذراعيّ المكشوفتين. وفجأة انقلب الرذاذ إلى وابل غزير فتراجعت إلى داخل الغرفة وأغلقت الباب. أشعلت شمعة ونظرت إليه فألفيته نائماً غارقاً في شرنقة وسنه. سرت نحو الحمّام بخطى كدبيب النمل كي لا أوقظه. فهو يكره أن يستيقظ باكراً، أخبرني حين حللت بشقته أوّل مرة أنّ أمتع أوقات نومه تأتيه عند الفجر، هي التي تمنحه الراحة والوضوح الذهني.
فركت أسناني جيداً بمعجون أسنان كريست، ثم خلعت ثيابي وتناولت حمّاماً طويلاً بماء فاتر، لم أتعمّد الإطالة، ولكنني تهت بغتة أفكِّر في المصير الذي يمكن أن أنتهي إليه لو علم هو بحقيقة إدماني!! إنني الآن سعيدة، أقضي أجمل أوقاتي بجواره، أشعر وكأننا زوجان قديمان تزوجا إثر قصة حب طويلة. أهذا هو الذي يطلقون عليه حميمية (intimacy)؟ ما أشعر به حياله أعمق من ذلك بكثير، شيء جميل، غريب، لذيذ. كان حواراً لا من دون انقطاع، حواراً بالصمت، وبالأعين ودقّات القلب. لا أدري كيف ومتى انسرب ذلك الإحساس إلى أعماقي ليحتلّني كمرض عضال لا شفاء منه. ألأنه أقدم على مساعدتي دون قيد أو شرط رغم علمه التام أن ذلك سيعود عليه وبالاً، أم لأنني مجنونة كما يصفني دائماً. غير أني اكتشفت بعد أن عايشته عن قرب أنه أكثر جنوناً مني، ولكنه مجنون على طريقته، بإبحاره في عالمه الفقير الغني، المعقّد البسيط، السطحي العميق، الضيّق الرحب!! في البدء احتقرت حالة الفقر التي رأيتها للوهلة الأولى من ولوجي شقته القائمة في الطابق الثالث من المجمع السكني الذي يقطنه فقراء من أجناس شتى: أفارقة وآسيويون، هيسبانيك وكاريبيون، أمريكان سود وشرق أوروبيون؛ معظمهم يعملون في المطاعم وشركات التنظيف والبناء والمستشفيات، كما يعمل بعضهم في البلديات ومترو أطلنطا، وهنالك أيضاً صغار مروِّجي المخدرات وعاهرات وقوّادون وراقصات في الأندية الليلية يضعن المساحيق ويرتدين ثيابهن الضيّقة الكاشفة عن أوراكهن وأفخاذهن الوارفة ونهودهن المرفوعة بحمّالات الصدر.
كنّا في أحيان كثيرة من أيام عطلة الأسبوع نقف على الشرفة عند العصاري لمشاهدة ما أسماه هو (نبض)؛ قال لي إنّ جمال المناطق الشعبية يكمن في كونها نابضة ومتنوّعة، بعكس أحياء الأغنياء التي يمكن للمرء أن يجد فيها أحدث ما ابتكر من بناء وتكنولوجيا وأثاث منزلي، ولكنها تظل خالية من النبض. كنّا نشاهد في فناء المجمّع شبّاناً وفتيات يرقصون بنشوة وجنون على أنغام موسيقى ألهب هاب، ويتبادلون بطريقة دائرية غير منقطعة لفافة حشيشة الماريجوانا، وعجزة يدورون حول بركة السباحة وهم يرقبون أحفادهم يسبحون، إضافة إلى ألعاب، مسابقات، مناطيد تعبر سماء المجمع حاملة إعلانات تجارية، خناقات بين أزواج تبدأ في الشقق ثم يطارد أحدهما الآخر لتختتم في الساحة بهزيمة الزوجة بعد رحلة من المد والجذب وتبادل اللكمات والصيحات، وفجأة ينفض الجمع، يفرّون في حالة من الذعر والفوضى لدى ظهور سيّارة الشرطة، ليبقى فقط العجزة والأطفال حول البركة.
كان يستمتع بتلك المشاهد التي أسماها (نبض) ويؤكد بنشوة حقيقية أن الحياة من دون هؤلاء تغدو لا طعم لها ولا لون، وأن الفقر والقهر والمعاناة هي في معظم الأحيان تولد إبداعاً حقيقياً لا مصطنعاً، وأن أهم عباقرة الفن والأدب خرجوا من قاع المجتمع وليس من عليائه.
ـ ألهذا السبب استأجرت هنا؟
ـ لا، بل لأنني جزء منهم.. مثلهم، ولكن على طريقتي!
ولم أكن بحاجة كي أسأله عن طريقته، فمحتويات الشقة كانت خير مجيب. الأثاث البسيط الذي ليس له أدنى صلة بلون الجدران، بنطلونات الجينز والكنزات المبعثرة في كل مكان، المطبخ المهمل الذي ما كان يدخله إلّا من أجل صنع فنجان قهوة أو تناول قنينة ماء أو صودا من الثلّاجة، أو من أجل إعداد طبق فول، لا يطبخ إلّا نادراً رغم أنه يجيد الطبخ، شقة فقيرة بمحتويات متنافرة الألوان، بعيدة عن التنسيق والأناقة والترتيب، ولكنها بطريقة ما، كانت جميلة، وغنية مما أثار دهشتي وفضولي معاً! كانت ثمة لوحات معلقة في كل مكان، في المطبخ، في الصالة، في الحمام، في الغرفتين، في الشرفة، لوحات قماشية، لوحات كرتونية، لوحات ليتوغرافية، لوحات غرافيكية، لوحات مائية، لوحات زيتية، رسوم بالقلم الرصاص، رسوم بالفحم، حفر على الخشب. أغلبها أصلية.