ما هي هذه المواطنية التي لم نُنجزها بعد في وطننا؟ وإلى أي حد يساهم طغيان مظاهر التبعية السياسية - الدينية والفروقات الاجتماعية في أكثرية الميادين في تربية مواطني المستقبل وطرائق تنشئتهم على القيم الاجتماعية المشتركة؟
You are here
قراءة كتاب وطن بلا مواطنين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الباب الثاني :هل نتعلم المواطنية؟
التربية على المواطنية عبر التاريخ
كان أفلاطون ينظر للتربية على قيم الشأن العام ويُنشئ مدرسةً لنخبة التلاميذ، ينتقيهم بدقة وينكب على تأمين تعليمهم بعناية كبيرة. وكان تعليم أفلاطون قائماً على تنظيم المجتمع، وفق فئات المواطنين، ومنهم: العمال والجنود والحكام الذين ينبغي أن يجتازوا مراحل تربوية طويلة الأمد "تؤهلهم للتأمل في طبيعة الخير لاستخلاص ما يُمكن تطبيقه في المجتمع". وقد عرض أفلاطون، في كتاب الجمهورية، مبادئ وطرائق تنشئة النفس وأدب الحياة ضمن الجماعة. وسعى لتلقين مبادئ التربية بشكلٍ رصين يكاد يكون مطبقاً على دور الفرد وجعله محصوراً في الفئة التي ينتمي إليها. فيكون المواطن إزاء هذا الأمر مقيداً بمكانه ومحكوماً بدوره.
لم تعد التربية على المواطنية ذات شأن منذ أن انتهت تجربة أثينا مع الديموقراطية وعلى مدى قرون. ويرجع السبب في ذلك لكون مفهوم المواطنية لا يكتمل بغياب البُعد السياسي نظراً لطبيعة هذا المشروع التربوي - الاجتماعي.
ثم شهدت التربية طوال القرون الوسطى، ارتباطاً بنقل تعاليم الدين. "ونشأت علاقة بين مفهوم التربية والبعد الاجتماعي للدين. (...) ثم استُخدِمت كلمة التربية في اللغة الفرنسية خلال القرن الخامس عشر للإشارة إلى التعليم. فكان المربي معلّماً وكان رجل الدين مربياً بامتياز. وأصبحت مجموعة القيم المرتبطة بالتربية مرادفة لاحترام التقاليد والعادات مما جعل الفرد على صورة الجماعة التي ينتمي لها. (...) ثم شهدت أوروبا مرحلة النهضة والثورات والأنوار. فتعدلت مفاهيم التربية وانقلبت على المجتمع والدين لتخلق مجتمعاً جديداً وتترك جانباً الدين وأبعاده" (خليفة، 2007، ص 24 - 25). مما سمح للتربية على المواطنية أن تشق طريقاً لها مختلفاً عن التربية على الأخلاق وعن التربية الدينية بالتأكيد.
ويجدر بنا الوقوف على ما ابتدعته الثورة الفرنسية تحت مسمى التربية المدنية التي رافقت بناء الجمهورية في فرنسا. وفي موسوعتهم الشهيرة، أشار فلاسفة الأنوار إلى تحديدهم للمواطن باعتبارهم أن للحاكم المستبد رعايا، وأما المواطن فإنه مشاركٌ في الحكم. وباعتبار أن هذه المشاركة تفترض الكفاءة والمقدرة، نتبين الحاجة إلى التربية وضرورة التربية المدنية لإعداد مواطني الجمهورية. وأدت هذه المقاربة إلى فصل التربية عن دائرة سيطرة المؤسسة الدينية والعائلة وإلى جعل هذه التربية شأن الدولة. بيد أن بعض المفكرين (كوندرسيه، مونتسكيو،...) وضحوا ضرورة تفادي تحويل التربية المدنية إلى دين مدني يأخذ مكان الدين الإلهي البائد. ونبهوا إلى ضرورة أن لا تكون العلمانية دين الدولة الجديد؛ فالعلمانية تعني استقلالية البعد المدني عن البعد الإلهي وفصل هذين البعدين في الشأن العام ولا تعني العلمانية استحداث دين مدني جديد مناقضٍ للدين ولا خلق إيديولوجية جديدة.
في عصرنا الراهن، عاد للتربية بُعدُها السياسي المهم. وقد توسع هذا البعد ليشمل بالإجمال كل مكونات المواطنية في التربية. ومع اقتران المواطنية بالديموقراطية، أصبحت التربية على المواطنية تشمل حيزاً لحقوق الإنسان وفق ما تعنيه هذه الحقوق على الصعيد السياسي. بيد أن منظومة حقوق الإنسان تبدو أوسع من حدود المواطنية، بالرغم من الإنتقادات التي تُوجه إلى حقوق الإنسان باسم الخصوصيات الثقافية والخلفيات التاريخية.
وفيما تتداخل حدود المواطنية بهامشها السياسي مع دائرة حقوق الإنسان وما تنشده، أصبحت المواطنية في المدرسة، والنظرة إليها من منطلقها وهدفها السياسيين، أكثر صعوبةً وتعقيداً وتتطلب النظر بعمق للإشكاليات التي تطرحها وحدود نجاحها.