You are here

قراءة كتاب من سرق الطماطة أيها الوطن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من سرق الطمامة أيها الوطن

من سرق الطماطة أيها الوطن

في ذلك الزمن كان أول الغائبين هو الزمن.. وكأننا لو ذكرنا تاريخ تلك الحوادث، فإننا سوف نزوّرها، كان فعلا فالتاً من الزمن، والزمن كان خائناً للحدث. فكأن عملية التأريخ هي عملية تزوير مهما حاولنا تأريخها..

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

في ساحة ذلك المكان أشار التلاميذ إليَّ نحو شاب قصير القامة يشارف على توديع عشرينيات عمره، إن لم يكن أكثر، وهو يرتدي نظارات شفافة. قالوا لي إنه طالب مجد، وهو صاحب تلك القصيدة: «ذهب زمن الطماطة يا لبنان»، اسمه عبد الرزاق الجبران.
أخذت أحدق فيه بدون أية التفاتة، فقد كان شبيه هادي سيد جبر كثيراً. هادي فارس الهور وأسطورة الصبر العجيبة.
فانتبه لي.. تبادلنا التحية من بعيد.. لم يدر بخلدينا أنَّ الكتابة ستجمعنا وأنَّ غربان حقول الطماطم وجراد مزارع السياسة ستفرّقنا.
اجتمعنا لمعان وافترقنا لمعان.. اجتمعنا في مدرسة واحدة، سوف يستمر فيها هو وأطرد منها أنا..
اجتمعنا في وجبة واحدة تمنح لنا في اليوم الواحد، تقيأتها أنا سريعاً، وتقيّأها هو بطيئاً.
جمعنا الشّعر، وفرقتنا القوافي.. جمعتنا الفلسفة، وفرقتنا المعاني.
افترقنا وتفارقنا الى أكثر من كليات خمس في المنطق، ومقولات عشر في الفلسفة.
هو سيكون عاشقاً لدمشق السورية، وأنا سأكون عاشقاً لسدني الاسترالية.. هو بات نزيلاً للتكيات والمقاهي والمنارات الكبيرة، وكل ما يرتبط بتاريخ أمة ذهبت، لسنا متعلقين بها بقدر ما هي متعلقة بنا.. اذ هو متشبث بما هو وحده معقول ومفهوم من هذا التاريخ: الأساطير!
أما أنا فعاشق لدار الأوبرا والبحر والنوارس والعمارات الكبيرة، وصخب الموج والموسيقى والنساء، وكل ما يرتبط بأمة حاضرة نحن متعلقون بها وهي غير مكترثة بنا.
جبران حريص على الأخلاق والاقتراب الدائم من الدين، كحرصي أنا على التهوّر والاقتراب المستمر من الجنس وكل ما يرتبط به من داعرات في وضح النهار وشجارات في عتمة الليل.
كان ذاك هو ملتقانا الأول.. كان كلانا واقفاً في باحة تلك المدرسة الرثة عقلاً وعمراناً.. لم يقترب أحدنا من الآخر.. تطلعت نحوه، وتطلع باتجاهي.. تبادلنا الابتسامة والتحية، وكأننا في فيلم قديم صامت رمادي الألوان. نحن أبناء الصمت نؤدي أفلاماً صامتة.
* * *
بعد سنوات من الهجــــــران والتحول وجدتُ رسالة أولى بعثتها عبر البريد الى دمشق، لكنها أُعيدت إليّ لخطأ في العنوان وتصحيح في الوجود.
كانت ورقة متكسرة الوجه مثل الذكرى.. مثل الفؤاد.
أخذتُ أقرأ الرسالة وكأني شخص ميت عاد لزيارة أهله ليلة الدفن، حسبما كانت عقيدة جدتي تقول..
كانت سطوراً مكتوبة على ورقة، أتذكر جيداً أنَّ تلك البطة العراقية، خلعتها من دفترها المدرسي وأعطتني إيّاها.. فكتبتُ الى جبران بعض رفاة دمي وتوجعي:
.. مساجد دمشق سواحل عاطلة، وسواحل استراليا مساجد تكتظ بمصلين عراة..
أنبئني يا جبران اين يقع الفرق وأين يقع الافتراق؟!
.. أنت تكتب للوطن، وأنا أكتب للغربة..
ما الفرق بين غربة الوطن ووطن الغربة؟!
قال الوهم للحقيقة أنا أكبر ملكاً منك؟!، قالت كيف؟!
قال: أنتِ تعطينني أكثر مما أعطيكِ، لكنكِ أشد بقاء مني.
قالت: كيف ولولاي لم تكن؟!
قال: في وجه الحقيقة يبان الوهم أكثر، فليس في الحقيقة سواها، لكن في بطن الوهم وهم مثله.
قالت: صدقت.
كانت قصيدة الطماطم تلك، وذلك اليوم هو ملتقانا وفراقنا الأول.
كنت أرمق جبران وأدندن مع نفسي قصيدته تلك.
صعدت برأسي ذكريات طماطم البصرة والزبير.. وصعد هو الى قاعدة الدرس بدون أن يلتفت.

Pages