كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " دفاعا عن الجنون - مقدمات " ، تأليف ممدوح عدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
طوبى
طوبى للبطن الرافض حملاً كي لا يبقر
ولذلك فإن البشر منقسمون إلى طائفتين: طائفة تريد الابقاء على العالم كما هو.. لأنها مستفيدة من صورته هذه أو لأنها غير متضررة منها أو لأنها لا تعي حجم الضرر اللاحق بها فيه. وطائفة تريد تغيير هذا العالم وقلب موازينه وموائده وإعادة ترتيبه. والشاعر منتم، حتماً، إلى إحدى الطائفتين. إما أنه طامح إلى تغيير العالم وإما أنه مساهم في تكريسه. ولا مجال للحديث المنافق عن ضرورة عدم تدخل الشعر في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع. فهذا الحديث ذاته يسعى إلى تكريس موقف سياسي واقتصادي واجتماعي للشعر. يريد جعله مادة تسلية وترفيه أو مادة تخدير وتثبيت للعالم على صورته القائمة.
المقولات النقدية التي تحاول التشكيك بالشعر المهتم بما يجري، أو تحاول صرف الشعر عن موضوعاته الحية إلى غواية الموضوعات (الخالدة) هي مقولات تعبر تعبيراً دقيقاً، وذكياً، عن مصالح أولئك الذين يريدون الابقاء على العالم كما هو ومن يريدون أن لا يحدث أي تغيير في العالم.
غير أن هناك تنويهاً هاماً لابد منه. تغيير العالم ليس عملاً آنياً ومؤقتاً وقد لا يكون ممكناً الآن. والشعر ليس طفلاً يحلم أحلاماً مستحيلة. بل هو حلم البشرية بإمكانياتها الفعلية. وهذا يعني أن الشعر لا يطمح إلى تغيير العالم الآن. فهو لا يخطط للقيام بانقلاب عسكري.
والذين يريدون توريط الشعر في موقف كهذا هم اولئك الذين اعتادوا على التفكير في إحدات التغيير عن طريق الانقلابات العسكرية. الشعر يطمح إلى إحداث ثورة. وبالتالي فهو يعمل ضمن استراتيجية ثورية. الشعر هنا، أي فعاليته في المتلقي. جزء من تراكم المعرفة الذي سيؤدي إلى تغير نوعي في وعي المتلقي وهذا يعني أن الشعر يساهم في تغيير الإنسان وتغيير نظرته للحياة لكي يتمكن هذا الإنسان من تغيير العالم.
**
أن تظل أنت. أن تقاوم غواية نيل الرضى أو راحة تجنب الصدام. أن لا تضحك إلا طروباً لنكتة أو سعيداً بفرحة. أن تغضب حيث الغضب هو الإنسان.
من هنا نبدأ الحديث عن الشعر: الشاعر.
في زحمة الحياة، في التسابق المحموم نحو الغنيمة أو النجاة في خضم البحث عن منتجع صحي للحياة. هناك، من يستوقفك ليقول لك: إنك قد نسيت شيئاً ما حين غادرت مسرعاً. شيئاً كالسبحة أو القداحة أو حمالة المفاتيح. الشعر يناولك هذا الشيء الذي نسيته أو تناسيته أو تعودت اهماله: الشعر يناولك نفسك.
قد يعتبرك الشعر إنساناً وحيداً في عالم موحش ضار فيقدم لك ابتسامة الحبيبة أو كتف الصديق أو تفهم الام. لكن الشعر قد يعتبرك نذلاً فيبصق في وجهك.
وهو، في الأحوال كلها. يتمنى أن يكون الصديق الفعلي وليس أنسه فقط، ويتمنى أن يكون الشفرة التي تفاجئك في زاوية معتمة فتشطر وجهك. لكنه لا يستطيع. فالشعر، حتى حين يكون سلاحاً، ليس بديلاً عن الاسلحة الأخرى. وحتى حين يكون تعبيراً عن الواقع ليس بديلاً عنه. هو تعبير عن حلمك بهذا الواقع أو خوفك منه. وهو تعبير عن احتمالات هذا الواقع ووضعك فيه.
**
وقبل أن تتخذ موقفاً من الشعر أخذ الشعر موقفاً منك. للشعر موقف من قارئه قبل أن يكون للقارئ موقف من الشعر.
هذا يعني أن الشعر لا يسعى إلى نيل رضى الجميع بل ربما كان يسعى إلى نيل سخط بعضهم. وربما كان يسعى إلى تأليب قسم من الناس على القسم الآخر. إنه يطمح أبداً إلى سكب الزيت فوق نار الصراع المتأججة في الحياة.
وبتجاوز أولئك الذين يرون الشعر صف كلام أو أوصافاً جميلة وخيالية للعالم وأولئك الذين يرون الشعر بحثاً مخبرياً لا علاقة له بالحياة، نصل إلى الشعر ـ الموقف: الشعر الذي لا يستطيع أن يكون (جميلاً) في عالم قبيح، أو حالماً سعيداً تحت المقاصل وأحذية الجند، أو لاهياً في أسواق النخاسة.
الشعر الذي يستطيع أن يكون جميلاً وحالماً ولاهياً هو شعر في المعسكر الآخر: معسكر القبح والجند والطغاة والنخاسين. وهو شعر يريد أن يلهينا عن رؤية جلادينا وسالبي قوتنا وكرامتنا.
**
لعل في هذا ما يجعل الشعر مكروهاً لا وقت له. فهو يتقدم شاهداً جريئاً (وصفيقاً) بقول الحقيقة كلها. يجلب لكل نفسه. كما هي، فيضعها أمامه بتشوهاتها وندوبها واستلابها، بما كانت عليه وما أصبحت عليه. ويجبره على التحديق إليها. فهو، إذن يتقدم شاهداً ومعه الحقيقة، يتقدم شاهداً عليك أمامك ومع نفسك.
كثيرون، لذلك يكرهون الشعر، وإضافة إلى المتجشئين الذين يرفض الشعر أن يسليهم أو يقدم لهم المهضمات، هناك الذين يخافون أن يقفوا أمام نفوسهم، لئلا تنظر إليهم نفوسهم وتراهم أو تريهم: لئلا ينكشف خزيهم أمامهم، لئلا يجبروا على شم روائحهم الكريهة. هناك اللص الذي لا يريد أن يرى نفسه لصاً أو أن يرى من يعرفه على حقيقته. وهناك مسروق لا يريد الاعتراف بما خسره أو الاعتراف بعجزه عن ملاحقة السارق أو الاعتراف بسكوته عن السرقة والاهانة والإذلال.
**