يهدف هذا المساق إلى التعريف بالاصول والمرتكزات الفكرية ، والمرجعيات الفلسفية التي تقوم عليها مناهج البحث في الفكر الغربي،وبيان أن مناهج البحث ترتكز كليا على المقولات الاساسية التي تشكلها الرؤية الكلية وتصبغ عليها صبغتها ،وعليه يصبح القول بان هذه المناهج تقو
You are here
قراءة كتاب الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
اولا:فجر الثقافة اليونانية " العلم الأيوني "
يؤرخ لبداية فجر الثقافة اليونانية بعهد هوميروس مؤلف الإلياذة* حتى أن صاحب كتاب تاريخ العلم أطلق على هذه الحقبة العصر الهوميري ، هو يقول في ذلك " كان هوميروس حقاً بشير الثقافة اليونانية والثقافة الأوربية، والثقافة الغربية ، وهو بشير يبلغ من الفحولة أنه حتى يومنا هذا لا يزال يطل علينا من عليائه "[2]ويعد هوميروس معلم اليونان الأول ، ويرى فيه أكسينو فانيس معلم الناس جميعاً، أما استحقاقه للقب معلم اليونان فيبرهن عليه تاريخ جميع الشعوب التي تتكلم اليونانية إلى يومنا هذا، والواقع أن هوميروس لم يكن معلم اليونان فحسب بل هو أحد معلمي الإنسانية، فهو الذي علم اللغة اليونانية، فمؤلفاته الخالدة ساعدت على توحيد تلك اللغة، ثم أن أشعاره أصبحت إنجيلاً للشعب اليوناني، وجعلوا منها لأنفسهم وأبنائهم نماذج للشرف والذوق السليم[3] .
وتزامن في نفس العصر الهوميرى ظهور صاحب الأوديسة هوميروس الثاني، وتنطوي الأوديسة على مغزى خلقي وهي ذات أهداف تعليمية، على أن الفرق كبير في الطابع والموضوع بينهما فالإلياذة قصة حروب على حين أن الأوديسة قصة سلام، ثم أن الإلياذة والأوديسة كانتا البداية لتعليم مبادئ العلوم الحديثة من تاريخ وجغرافيا وطب والفنون والحرف الأخرى[4]، وبذا تعد هي البدايات الأولى للفكر اليوناني الذي شكل المفاهيم الأساسية للحضارة الغربية الحالية، وكانت البدايات الفكرية للفلاسفة اليونان اللاحقين.
هذا وقد سبقت أيضاً مرحلة أفلاطون بعض البحوث التي تعد من الكتابات الأساسية التي شكلت الثقافة اليونانية وأرست قواعد التفكير الاجتماعي في اليونان ومن هذه البحوث:ـ
قصيدة الأعمال والأيام:ـ
وتعد هذه القصيدة هي الفلسفة التي اختطها هسيودوس، وتنقسم إلى أربعة قضايا، أولها عظة لأخيه الأصغر ومجموعة من القواعد الزراعية والملاحية، ومبادئ أخلاقية ودينية، وأخيراً تقويم للأيام السعيدة والمشئومة. وقد تضمنت هذه القصيدة مجموعة من القواعد التي ينبغي أن تقام عليها الحياة الاجتماعية السليمة في نظره، وقد ركز على فكرتي العمل والعدالة[5]. وتضمنت أيضاً مبادئ لقضية التطور والتغير في تقسيمها للعالم إلى عصور خمسة وهي عصر الذهب أي عصر السلام والكمال، وعصر الفضة وهو أقل من عصر الذهب صفاءً ونبلاً، وعصر البرونز وهو العصر الرابع الذي يشير على ما يبدو إلى النهضة الميونية التي ألهمت ذكراها أشعار هوميروس ، وأخيراَ عصر الحديد وهو العصر الحالي[6] والقصيدة الأخرى هي قصيدة أصل الآلهة وهي منسوبة أيضاً إلى هسيودوس . ويعالج فيها قضية الدين ونشأته وعلاقة عالم الآلهة بعالم البشر ، وأن التلاقح بين العالمين أنتج قادة الناس في هذا العالم.
تلي هذه المرحلة مرحلة العلم الأيوني القديم هي الأشعار المنسوبة إلى طائفة يطلق عليها اسم الحكماء السبعة ، وقد جاءت أفكارهم محتوية على كثير من الحكم والأمثال التي تدعو إلي العدالة الاجتماعية وتقرر المعايير للعلاقات والمعاملات بين الأفراد[7] وقد ظهر هؤلاء في القرن السادس وهم طاليس، كليوبولس ، بياس ، بيتا قوس، سولون برباندروس، وخليون ،غير أن المتفق عليهم دوماً هم طاليس، وبياس وبيتاقوس وسولون، غير أن أشهرهم جمعياً طاليس، وهو يعد أول فلاسفة اليونان الفسيولوجيين"، ولعل نجاح طاليس في العملي في ميادين الفلك والهندسة والمغناطيسية ضاعف مطامعه الفكرية، وهو من حيث أنه أول عالم في العالم الغربي، سبق مذهب التفاؤل المتطرف الذي ساد بين علماء الطبيعة في العصر الفيكتوري، لم يقنع بتعقيل الهندسة العلمية ، بل أراد أن يفسر العلم نفسه، لا كما فعل الصيبانيون من السابقين عليه بالالتجاء إلي الخرافات ، بل بصيغ حسية يمكن تحقيقها، وتحديد طبيعة العالم أو مادته، وتساؤله من أي شيء صنع العالم، وكانت النتيجة التي انتهى إليها أن الماء هو المادة الأولى، وإن لم يختلف مع هوميروس من أن الأرض محوطة بالاوقيانوس وعلى حين استقر اليهود على وحدة خلق الكون، استقر الفسيولوجيين الايونيون الذين كان طاليس أولهم على وحدته المادية، وكان قول طاليس أن المادة الأصلية للكون هو الماء، وقد توصل إليها بعد النظر إلي جميع الحقائق .
ولم تكن النتيجة التي توصل إليها طاليس من أن الماء هو مادة الوجود الأولى ذات أهمية قصوى بالنسبة للفكر الغربي بل كانت المنهجية التي اتبعها في التوصل إلي ذلك واستنطاقه المادي المحسوس ليصل إلي هذه النتيجة، مما يوافق أسلوب تفكيرهم المادي الذي استقوا أصوله منه، ويعبر عن ذلك قول الفيلسوف سارتون " سيلاحظ المؤرخون أصحاب العقلية الفلسفية باهتمام أن نبي الإسلام انتهي إلي نتيجة مماثلة بعد أكثر من أثنى عشر قرناً، وليس من المستحيل أن تسرب التصور الطاليسي إلي ذهن محمد، لكن ليس من الضروري على الإطلاق أن تدعم وجود هذه الصلة، بل الأقرب إلي المعقول أن نذكر الفرص الكثيرة التي تسنت إليه كما تسنت لطاليس ووصل كل منها إلي نتيجة متشابهة، ولكنهما عبرا عنها بشكل مختلف تبعاً لاختلاف مزاجها، إذ كان محمد نبياً مثل سابقيه اليهود وكان طاليس رجل علم، وأبرز طابع للعبقرية اليونانية، ومع أن طاليس أسبق من النبي باثني عشر قرناً، فإن طاليس الصق بنا[8] .
تلي ذلك فلسفة انكسمندروس وهو كان فكلياً في المقام الأول وتناول فكرة الوحدة المادية للطبيعة وتصور مادة ليست محسوسة سماها الأبيرون كتجريد عقلي للمادة التي تصلح أن تكون المادة الأولى للحياة واللفظة تدل على اللانهائي أو اللا محدود كما تدل أيضاً على اللامجرب، وتتلخص نظريته عن الحياة في أن الحيوانات الأولى خلقت في الماء، وكانت محوطة بنوع من القشور، ومن ثم وجدت لها مسكناً جديداً على الأرض اليابسة، فنزعت عنها أصدافها، ولاءمت بين نفسها وبين الأحوال الجديدة، ولا بد أن الإنسان تطور عن غيره من الحيوانات، وبالجملة لم يتصور انكسمندروس نظرية عامة عن الكون فحسب، بل كذلك نظرية عن التطور العضوي، وهو بذلك يعد رائد بعيد لدارون ولابلاس على السواء[9].
وجدير بالذكر بحوث كل من ارستوفان وإكسانوفون، من أهم البحوث التي كتبها أرستوفان روايتان، السحب والفرسان، وتناول في الرواية الأولي نقداً للسوفسطائيين. وفي الرواية الثانية تناول فيها شئون الاجتماع ونقد فيها النظم القائمة وإحلال نظم أخرى مكانها، ونادى بوجوب إلقاء نظام الملكية ونصح أن تكون الأراضي الزراعية والأملاك العقارية مشاعاً للجميع وذهب أيضاً إلي شيوعية النساء والأطفال وأقر نظام الرق في مجال فلاحة الأرض، وتعد أفكاره أفكار أولية لكل من المفكر الفرنسي الفوضوي برودهون وماركس أما أبحاث إكسانوفون فأهمها بحث في الاقتصاد العائلي وعالج فيه طائفة من الظواهر الاجتماعية الأسرية، ويدور البحث الثاني حول التربية ويعتبر بحثاً في الآداب، يعرض فيه الحياة الاجتماعية المثلى في نظره والتي اتخذ لها مثالاً من الحياة في إسبرطة وما فيها من ألوان الحياة الاجتماعية ومظاهر التربية العسكرية ، وهي تقارب كتاب أميل " لجان جاك روسو".
وقصارى القول أن التاريخ اليوناني وتدوينه نشأ في أيونيه، كما نشأت فيها الفلسفية الطبيعية، وأن أيونية بالنسبة لليونان هي مهد التاريخ الإنساني كما هي مهد التاريخ اليوناني، وأن الأيونين وضعوا قواعد العلم اليوناني الذي انبثقت عنه كل العلوم في الفكر الغربي الوضعي الحديث، وستناول في المبحث القادم أفكار بعض من فلاسفة اليونان الكبار وبعض من الفلاسفة المسيحيين الأوائل، على اعتبار أن الفكر الغربي الحديث عندما أبعد الدين عن المنظومة المعرفية لم ينحى بالضرورة كل أفكار الفلاسفة المسيحيين الذين كانوا في العهد الأول.