يهدف هذا المساق إلى التعريف بالاصول والمرتكزات الفكرية ، والمرجعيات الفلسفية التي تقوم عليها مناهج البحث في الفكر الغربي،وبيان أن مناهج البحث ترتكز كليا على المقولات الاساسية التي تشكلها الرؤية الكلية وتصبغ عليها صبغتها ،وعليه يصبح القول بان هذه المناهج تقو
You are here
قراءة كتاب الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الأصول المعرفية لمناهج البحث في الفكر الوضعي والفكر الإسلامي
المسيحية والحركة الفلسفية والفكرية :
ورثت المسيحية عن اليهودية وعن الفلسفة الطبيعية ذات الاتجاه الرواقي، بعض القضايا الفكرية الأساسية، مثل القانون الطبيعي والحالة الطبيعية أو حالة البراءة الأولي، والمساواة والوحدة الإنسانيتين، والتعارض بين المدينة العالمية والمدن الخاصة، وقد أخذت هذه القضايا ودمجتها في مفهومها الديني، وكانوا يقرنون ولو بطريقة اصطناعية بين الكتاب المقدس والعقل الوثني، وقد أوضحوا بأن القانون الطبيعي ليس إلا انعكاساً لقانون الله أو القانون الأبدي، المعبر عن العقل الإلهي والإرادة الإلهية، أما القانون الزمني أو القانون البشرى فليس فيه من شيء صحيح إلا ما كان متفقاً مع القانون الطبيعي، المتفق في حد ذاته مع القانون الأبدي[30] .
والتطبيق الكامل للقانون الطبيعي لم يكن ممكناً إلا في حالة البراءة والبساطة الأولى التي كان يعيش فيها الإنسان قبل السقوط، وذلك على هدى ما جاء في قصة سفر التكوين عن الفردوس المفقود، ففي العصر الذهبي أو الحالة الطبيعية لم تكن توجد خطيئة، ولا أحكام، وبعد تقويض النظام الطبيعي نتيجة لفوضى الخطيئة نتجت الأحكام والسلطات، كما أردها الإله، وأضحي من الضرورة أن تطلب الطاعة من المحكومين باسم الإله.
أما المساواة والوحدة الإنسانيتين، فإن الفكرة اليونانية حول المساواة الطبيعية والوحدة الإنسانية، قد تحولت لفكرة مسيحية تقوم على الانتماء لجسد مجازى واحد، وأن الجميع لا يشكلون إلا واحداً في المسيح، الجميع من يهود ويونانيون من عبيد وأمراء والذين أصبحوا بفضل التعميد لا يكونون إلا جسداً واحد، وأن هذه المساواة الإنسانية الأساسية لم تختفي مع اختفاء الطبيعية والبراءة، وأن العبودية موجودة لكنها لا تمس إلا الجسد[31] على اعتبار أن الخطيئة هي التي تجعل المرء عبداً ، والبراءة هي الحرية، وهذا يقود إلي اعتبار مفهوم الخلاص من الخطيئة طريقاً حتمياً إلي الحرية، والخلاص من الخطيئة تمنحه الكنيسة، وقد كان هذا من القواعد الأساسية التي أنبنت عليها سلطة الكنيسة لاحقاً.
أما التعارض بين المدينة العالمية والمدن الخاصة، فإن هذه الفكرة في أصلها من مقولات الفلسفة الرواقية، وقد أدخلت ضمن الفلسفة المسيحية وفق تأثرها بالفلسفة اليونانية، وربطت بالمفهوم الأخروي وفوق الطبيعي، وإذا كان الرواقيون مواطنون عالميون، فإن المسيحيين يعدون أنفسهم مواطنون سماويون، وأن موطنهم الحقيقي هو المدينة السماوية، إلا أن هذا لا يمنع من أن يعيشوا أيضاً في مدينة أرضية، ومن هنا نبع التفريق بين المدينة السماوية والمدينة الأرضية وخصائص كل، وتطورت هذه الفكرة إلى التعارض بين السلطة الروحية والكنسية باعتبارها ممثلة لمدينة السماء، والسلطة الزمنية ممثلة في الحكام، إلى أن سيطرت الكنيسة على كافة السلطتين وأدى ذلك إلى قيام المنهج اللاهوتي وسيادته في المجتمع وتنظيمه وعلى قواعد التفكير والمعرفة.
وسوف نستعرض قواعد التفكير الفلسفي المسيحي من خلال أفكار كل من القديس أوغسطين الذي يمثل الفلسفة المسيحية في قرونها الأولى والقديس سان توما الأكويني الذي يمثل أوج الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى، ومعلوم أن القرون الوسطى بالنسبة للغرب، كانت المرحلة التي اتسمت بالمنظومة الفكرية والمعرفية اللاهوتية، والتي ساد فيها الفكر اللاهوتي القائم على المزاوجة بين الماورائيات والميتافيزيقيا في الفكر اليوناني الوثني، وبين العقيدة المسيحية والتي تعد في جانب من جوانبها من الوحي الإلهي، مما أجمله الغرب بالفكر الديني، ومن خلال عرضنا لآراء الفيلسوف أوغسطين والقديس توما، سوف نحاول أن نتلمس القضايا الفكرية التي شكلت النظام المعرفي اللاهوتي والذي أصبح من بعد أساس الأزمة الفكرية والمعرفية في الفكر الغربي في عصر النهضة والذي أدى إلى إبعاد الدين أياً كان مصدره ونوعه عن المنظومة الفكرية والمعرفية وبناء نظام معرفي لا يعتد بالدين كأحد مصادره المعرفية.
آراء القديس أوغسطين :
عالج أوغسطين موضوعات كثيرة في الفلسفة استقى أصولها من الفلسفة اليونانية، وركز على الأفكار المثالية فيها مثل الأفكار الأفلاطونية والرواقية، ومن أهم القضايا التي عالجها في فلسفته الدعائم التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية، وعلاقة الكنيسة بالسلطة الزمنية، وقواعد المعرفة.
مقولاته في الحياة الاجتماعية :
يرى أوغسطين أن الحياة الاجتماعية قامت في فجر نشأتها على مباديء القانون الطبيعي، وأن المجتمع ليس حشداً من الأفراد كيفما اتفق ولكنه جماعة من الأفراد يشتركون في الأفكار والعواطف ويؤلفون وحدة معنوية تقوم على الرضا والمحبة، ولما كان الله قد أودع في قلوب بعض الأفراد محبة الذات وفي قلوب البعض الآخر محبة الله، أصبحنا أمام مدينتين ترجع إليها سائر المجتمعات الإنسانية وهما: مدينة الأرض، ومدينة السماء[32].
والمدينة السماوية في نظر أوغسطين مؤسسها هو الإله[(]، وتوجد في العالم الأرضي، وتضم أسرة البشر الذين يعيشون في الإيمان، ولقد أعطيت هذه الأسرة منذ البداية الوعد بالخلاص، وهي تستعمل كأجنبية الخيرات الدنيوية التي تستعملها أسرة البشر الذين لا يعيشون مع الإيمان، وخيرات المدينة الأرضية بالنسبة للذين لا يعيشون إلا حياة الإنسان القديم، هي الخيرات التي يتمتعون بها، أما بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في هذه المدينة حياة الإنسان الجديد ، المولود من النعمة فإن الخيرات نفسها ليست إلا وسائل يستخدمونها ليعودوا بها إلى غايتهم الحقيقية، وهكذا فإن المدينتين تستعملان معاً الخيرات الدنيوية، وهذا يعني أنهما متشابكتان وممتزجتان الواحدة بالأخرى في هذه الحياة الدنيا، والمسيحيون يشكلون بالضرورة جزءاً من الأولى ومن الثانية ، لذا يجب أن يكونوا مواطنين أفضل من الآخرين[33].
ومن هذه الأفكار حول ما أسماه قسطنطين بمدينة السماء ومدينة الأرض، قامت آراؤه فيما يتعلق بالعلاقات بين الكنيسة والسلطة الزمنية فالكنيسة تمثل مدينة السماء، والسلطة الزمنية تمثل مدينة الأرض، ولقد تبنى أوغسطين في هذا الصدد مواقف تتلخص، في المناداة بالتمييز بين السلطة الروحية ممثلة في الكنيسة، والسلطة الزمنية، وباستقلالهما المتبادل وتعاونهم الوثيق في نفس الوقت وبالتفوق المعنوي بسلطة الكنيسة، ولكل سلطة ميدانها، للدولة المصالح المادية والحياة الخارجية والجزاءات الجسدية وللكنيسة المصالح الروحية والحياة الداخلية والعقوبات الروحية، وهذا لا يمنع أن تضع الكنيسة نفسها في موضع أعلى، فقضاؤها يمتد على الكون بدل أن يكون محدوداً بشعب معين، في حين أن الدولة ليست إلا حقيقة متغيرة ومؤقتة.