لا شك أن شرقي الأردن آهلة بالسكان منذ أزمنة عريقة في القِدَم، وإن لم يزل قسم كبير من تاريخها القديم مجهولاً. فوفرة الآثار وانتشار بقايا ما قبل التاريخ التي اكتشفها وصوّرها من الجو الجروب كابتن ريز Group Captain Rees V.C., A.D.C...etc.
You are here
قراءة كتاب تاريخ شرق الأردن وقبائلها
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قطع الإسرائيليون نهر الأردن وأتوا إلى أرض مؤاب وكان ملكها في ذلك الحين بالاق بن صفور، ولما عجز عن مقاومتهم طلب من بلعام أن يلعنهم ليتخلص منهم، ولكن بلعام باركهم بدلاً من أن يلعنهم بحجة أنه لا يتفوه إلا بما يوحيه إليه الله([41]).
مات المشرِّع والقائد العظيم موسى قبل أن يصل إلى البلاد التي كانت محط آماله وآمال شعبه منذ خروجهم من مصر. يروى أنه حمل قبل الوفاة على جبل نبو - نبا اليوم - بالقرب من مأدبا([42])، حيث ألقى آخر نظرة على أرض الميعاد. «قال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر». وهكذا لم يمهله الأجل حتى يجني ثمر جهوده. ودُفن في وادٍ قريب من بيت فغور، «ولم يعرف إنسان قبره حتى اليوم»([43]).
كان لمرور بني إسرائيل من شرقي الأردن ثلاث نتائج:
1- تحكم العداء بين الإسرائيليين وأهل البلاد التي مروا عليها، فقامت الحروب والمنازعات بينهم، وأخيراً عندما حاصر نبوخذنصر القدس (587 ق.م) انضم إليه الأدميون ونهبوا معه المدينة نكاية بالإسرائيليين. وكانت أنبياء بني إسرائيل يتنبؤون بسقوط أدوم، ويمكن أن تكون نبوءتهم قد صدقت عندما طرد الأنباط الأدوميين من جبلهم سعير وأرغموهم على الرحيل إلى فلسطين، حيث أصبحوا يعرفون بالأدومانيين ومنهم الهيروديون ملوك القدس.
2- سقوط مملكة سيحون وهي فتية.
3- سكنى بعض الإسرائيليين في بعض نواحي شرقي الأردن، أهمها جلعاد التي أصبحت صلتها مع المملكة الإسرائيلية في فلسطين متينة جداً لدرجة أنه كان منها القاضي الإسرائيلي جائر، والقائد الإسرائيلي جفتا الشهير بظفره على العمونيين، وأول ملك إسرائيلي شاول.
أعقب توطن الإسرائيليين في فلسطين فترة حروب واضطرابات دامت بضعة قرون، فبينما كان المؤابيون يغزون ويضطهدون الإسرائيليين، نرى الإسرائيليين يعقدون هدنة مع الفلسطينيين القادمين من كريت لرد غارة مؤاب، وبعد قتل ملكها عجلون يُعمِلون السيف بالمؤابيين والعمالقة حتى خضعت البلاد بأسرها لسلطانهم([44]). وكان عرب مديان، بدو الجنوب([45])، عنصر اضطراب وقلاقل في شرقي الأردن وفلسطين، فغزاهم أولاً هدد ملك أدوم، ثم جدعون قائد الإسرائيليين، وبعدما قتل الأخير ملكين أو رئيسين منهم يدعيان غراباً وذئباً([46]) لحق بفلولهم من يجبهة «صويلح» إلى قرقر «وهي قراقر غالباً بالقرب من كاف في وادي السرحان»، حيث أخذهم على حين غرة وأسر منهم 15٫000 رجل وقتل اثنين من ملوكهم أو رؤسائهم وهما زبح وصلمناع([47]).
لم تقوَ المملكة العمونية الصغيرة على صد هجمات الإسرائيليين، فاندحرت أولاً في عروعير «عرار» بوادي الموجب([48])، واندحرت ثانية حوالي عام 1020 ق.م بالقرب من يابش جلعاد حيث فقدت ملكها ناحاش([49]).
وكانت نتيجة هذه الحروب والغزوات طوال تلك العصور أن استرجعت مؤاب ملكها السابق إلى مياه النمرين. أما جلعاد فقد بقيت إسرائيلية، واستردت عمون ذلك الجزء من مملكتها الذي استولى عليه أولاً الأموريون ثم موسى. أما مملكة أدوم التي كانت ممتدة من جنوبي وادي الحسا إلى فلسطين، فقد كان يسودها السلام إبان هذه الفترة، ولم يعكر صفوها غير بضع غارات شنها البدو على حدودها.
شرقي الأردن من 1000 ق.م إلى قيام الإمبراطورية الآشورية عام 853 ق.م
حوالي عام 1000 ق.م أصبح داود ملكاً لإسرائيل، وإذ كان جندياً ماهراً وشاباً طموحاً رسم لنفسه سياسة هجومية عدائية على من أهان شعبه وأغار عليه إبان ضعفه في العصور التي سلفت.
كانت مؤاب أول مملكة تطلع إليها داود وجعلها فاتحة أعماله، ولما رأى حانون ملك عمون ما أصاب جارته خاف على ملكه فارتمى في أحضان الآراميين في سوريا، الأمر الذي جعل داود يقلع عن سياسته تخوفاً من هذا الحلف، ويرسل إلى أهل عمون رسلاً يخطب ودّهم، ولكن الملك حانون احتقرهم احتقاراً لا مثيل له، وحلق نصف لحاهم وطردهم([50]).
من أجل هذه الإهانة التي لحقت بداود وشعبه لم يكن بداً من غسلها بالدماء، فأرسل داود يؤاب بجيش إلى شرقي الأردن. وبعد سلسلة معارك لا يُعرف تفاصيلها، اندحرت القوى العمونية وحوصرت في قلعة عمون([51]). قطع يؤاب المياه عن القلعة فأيقن أنها ستستسلم له فوراً، وأرسل إلى سيده يدعو لينال شرف فتح المدينة ونهبها. وفي أثناء هذا الحصار قُتل أوريا الحثي الذي بعثه داود إلى ساحة القتال وأوصى قائده أن يجعله في مقدمة الجيش ليلاقي حتفه طمعاً بزوجته([52])([53]).
بقيت أدوم المملكة الوحيدة التي لم يستول عليها داود بعد، فهاجمها بشدة بدون مبرر وقتل ملكها هدد الثاني وخلقاً كبيراً من سكانها، وهرب هدد الثالث إلى مصر بعدما سلّم ملكه إلى داود.
لم يدم حكم اليهود طويلاً في شرقي الأردن، فقد استردت مؤاب وعمون استقلالهما في عهد الملك سليمان وكذلك أدوم، فإن ملكها هدد الثالث([54]) رجع إليها بعدما تزوج من أخت الملكة تحفنيس امرأة فرعون شيشونك الأول (945-924 ق.م).
وهكذا لم يبقَ لليهود شيء في شرقي الأردن إلا بقعة قريبة من العقبة تُعرف في التوراة بـ «عصيون جابر»، فكانت السبب الرئيسي للقضاء على مملكة أدوم ثانية في فاتحة القرن التاسع للميلاد([55]).
وفي غضون هذه العصور حدث عدة حروب بين ممالك شرقي الأردن واليهود، وكانت سجالاً بين الفريقين إلى أن ضعفت المملكة اليهودية فاندلع لهيب الثورات في كافة أجزائها، وبذلك تملصت شرقي الأردن من دفع الجزية التي كانت مفروضة عليها.
وحوالي عام 860 ق.م قام في مؤاب ملك عظيم يدعى ميشع ترك سجلاً عن أعماله على حجر اكتُشف في ديبان عام 1868 ق.م([56]). لم يرفض هذا الملك، فقط دفع الإتاوة إلى إسرائيل، بل توسع بحدوده إلى أن وصل معان وجعل قير حارسة «الكرك» معقلاً حصيناً زوده بصهاريج الماء([57]). ويروي مؤرخو اليهود أن آحاب هزم ميشع هزيمة منكرة وحرق عاصمته وقتل جميع من فيها. وكانت أدوم حليفة اليهود في هذه الحرب، إلا أننا نشك في صحة هذه الواقعة، ويمكن أنها التبست بالواقعة الحربية الواردة في الإصحاح العشرين من سفر الأيام الثاني، وتتلخص في أن أبناء مؤاب وعمون وجبل سعير (أو أدوم) تكاتفوا وتآزروا على مهاجمة يهوشافاط ملك يهوذا (873-839 ق.م)، ولكنهم فشلوا في محاولتهم، لأنهم بعد أن وصلوا في سيرهم إلى «عين جدي» اختلفوا وتنازعوا فقتل رجال جبل سعير عن بكرة أبيهم. وبعد ذلك رجع ميشع إلى الكرك ثم أغار على بلاد الأدوميين واستولى على معان حين احتل ملك يهوذا جميع وادي عربة إلى العقبة.
وهكذا فالفترة التي تلت مرور الإسرائيليين من شرقي الأردن كانت ملأى بالحروب، طافحة بالفتن والاضطرابات، وذلك لضعف الإسرائيليين في بادئ أمرهم، فغزتهم قبائل شرقي الأردن وفتكت بهم، ولكن بعدما استقروا في فلسطين تقووا ثانية، وبدافع حفظ طرق التجارة مع البلاد العربية والشرق احتلوا القسم الجنوبي من شرقي الأردن بما فيه ميناء العقبة.