كتاب " ريام وكفى " ، تأليف هدية حسين ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب ريام وكفى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولم أقل أيضاً بأنه قبل ذلك أركبني ظهر إحدى الجاموسات وكانت تعوم في النهر وكدت أصرخ لأنني خشيت من السقوط أثناء ما كانت الجاموسة تغطس في النهر فأنزلني وقال: ستتعلمين ركوب الجواميس في الجبايش، وأخفيت أيضاً انني وريحان دخلنا المقبرة الانكليزية أكثر من مرة وصارت موعداً ثابتاً للّقاء بيننا·· وبرغم أن هذه المقبرة قريبة من بيتنا إلا أنني لم أدخلها يوماً إلا مع ريحان، وكم دُهشت حين تجولت بين قبورها المنظمة التي لا تشبه قبور موتانا، وريحان يقرأ لي أسماء الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى ودفنوا في هذه المقبرة، أسماء غريبة على مسامعي مكتوبة بالانكليزية التي يجيدها ريحان، وجلسنا تحت فيء أشجارها وارفة الظلال، وأحياناً يأتي ريحان ومعه كتاب في التاريخ المعاصر ويقرأ لي عن شخصيات تاريخية أثّرت في الحياة البغدادية وفي عموم العراق،وكم مشينا على عشبها الناعم الطري، ومن ريحان سمعت للمرة الأولى باسم المس بيل، وقفنا بالقرب من قبرها وقال ريحان هذا قبر المس بيل عالمة الآثار البريطانية والسياسية المشهورة التي عاشت في العراق وكان لها دور كبير في سياسته ويقال بأنها هي من اختارت الأمير فيصل الأول ليكون ملكاً على العراق، وكثيراً ما شاهدها الناس وهي على صهوة جوادها ويسميها البغداديون في ذلك الوقت بالخاتون، والخاتون تعني باللغة التركية المرأة الشريفة عالية المقام، وكانت تتنقل في قرى العراق وتقوم بحملة تلقيح الأطفال ضد مرض الجدري، وصار قبر المس بيل بعد ذلك مكاناً مفضلاً للمواعيد بيني وبين ريحان، ثم رأيت قبر الجنرال ستانلي مود قائد الحملة البريطانية على العراق في بداية القرن العشرين، وله تمثال في كرخ بغداد أزالته الجماهير الغاضبة بعد ثورة تموز في العام 1958 كدلالة لإزالة عصر الاستعمار، وأخبرني ريحان أن الجنرال مود مات بمرض الكوليرا أما المس بيل فقد ماتت بتناول جرعة كبيرة من الأدوية ويقال بأنها انتحرت·· وكنا حين نتواعد في المقبرة تكون نجية اخت ريحان التي تصغره بأربع سنوات جالسة على السياج الواطىء للمقبرة بالقرب من مدخلها تراقب الطريق، فإذا رأت أحداً من الذين يعرفوننا تنزل من على السياج إلى داخل المقبرة وتصيح بأعلى صوتها: ريحان جاءنا ضيوف·· عندها نهرب من السياج البعيد·· وفي أحد اللقاءات تلك أخبرني ريحان بانه يعتزم إذا ما دخل الجامعة أن يدرس تاريخ العراق في تلك الفترة·· هل كان ذلك سبباً كامناً في أعماقي لكي أتخصص بعد سنوات بدراسة التاريخ؟
كل ذلك أخفيته باصطناع البراءة التي لم أمتلكها أبداً، وحينما عاد خالي قال: كسرت له ذراعه أمام أمه وهددته إذا اقترب منك سأكسر له أنفه، إذا كان الموت قد غيّب أباكِ فتذكري أنني موجود، كم شعرت بالحقد على هند التي كانت من وراء كتف أمي ترمي إليّ نظرات ساخرة، وكم كرهت خالي وتمنيت من الله أن يكسر له يده، لطالما سمعت من جدتي مسعودة أن الدعاء إلى الله وقت المغرب مستجاب، فهرعت إلى السطح في ذلك الوقت، كانت الشمس للتو تغطس وراء الأفق، فردتُ يديّ ورفعتهما إلى السماء وتمنيت أن يكسر الله يد خالي·· ثم عدّلتُ الدعاء ورجوت الله أن يبتر يده بتراً·
لم أر ريحان بعد ذلك سوى مرة واحدة رتبتها نجية بعد أسبوعين على ما فعله خالي به، وفي تلك المرة التي عبرنا فيها جسر الصرافية بشكل منفرد لكي لا يرانا أحد معاً من الذين يعرفون أهلي، جلسنا على شاطىء النهر من جهة الكرخ، كانت يد ريحان ملفوفة بالشاش الأبيض، قال بأنها ليست مكسورة بل حدثت بها رضوض لأن خالي دفعه فسقط أرضاً والتوت يده، وسألته عن المعدان فقال بألم: لا أدري لماذا يقللون من شأنهم مع أنهم منبع الحضارة وهم قوم مسالمون لم تلوثهم المدن حتى وإن عاشوا فيها، وراح يحكي عن الأصل مبتعداً عما آل إليه الوضع بعد آلاف السنين عندما دخلت أقوام أخرى من الجزيرة العربية واستوطنت بجوار ممالكهم السالفة وتسيدت الحياة·· كنا في بداية العطلة الصيفية فأخبرني بأنه سيزور أعمامه هناك ويعود، وأنه لن ينساني أبداً وكرر عليَ بأنه سيتزوجني على عناد خالي الذي لا يرى أكثر من موطىء قدمه على الأرض، وشعرت بأنه سعيد لأنه سيمضي إلى الأهوار في هذا الوقت بالذات حيث يأتي أكثر من مليوني طير من أقاصي الدنيا ويتعايش مع الطيور الأصلية، وراح يحكي عن ألوان الطيور وعاداتها وعدّد لي بعض أسمائها، ومنها البجع والبط الصيني والغاق والكوشرة والدبش والخضيري والنقوط والمنتشي والسرندة والسنونو واللقلق والشاهين والصقر، وقال عن الخضيري بأنه طير ذكي جداً يعرف كيف يراوغ الصياد ويفلت منه فلا يقع بسهولة في شباك الصيد، وإذا وقع فإن الصياد يذبحه سريعاً لكي لا يموت، لأن الخضيري دون بقية الطيور يشعر بالحزن العميق ويموت قهراً إذا وقع فريسة الصيد·
كان ذلك آخر لقاء بيني وبين ريحان، ثم اختفى ولم أعرف عنه أي شيء، حتى نجية آثرت الابتعاد عني وقالت بأن امها أوصتها أن تبتعد عن المشاكل، وأخيراً عندما أمسكت بيدها بقوة ولم أدعها تفلت مني قالت بأن عمها الذي يسكن في الأهوار أشار عليه بالبقاء في قريته في الجبايش، تلك القرية التي قال لي ريحان عنها ذات مرة بأنها قرية الماء والأسماك والطيور ومشاتل الرز وبيوتها مبنية من القصب والبردي وعائمة فوق سطح الماء، ولعله الآن يصنع الحصران والبواري ويربي الجاموس مهنة أجداده·
أمي من جانبها حرّمت شراء القيمر من أمه، وضيّقت علي الخروج إلا للمدرسة، ودائماً مع هند وصابرين وإذا كان لابد من الخروج لأغراض أخرى أكون برفقة أمي، إلا أنني أجد دائماً طريقة ما للخروج لعلي أرى ريحان أو أسمع خبراً عنه، فربما يكون قد عاد سراً ودار في الطرقات بحثاً عني، وكم من مرة دخلت المقبرة الإنكليزية وانتظرته عند قبر المس بيل، لكنني لم أره أبداً، وظل ريحان مستقراً في رأسي لفترة طويلة، أتذكره كلما تذوقت القيمر أو أكلت الريحان ذا الرائحة الشذية أو استمعت إلى الأغنية المعروفة (يا نبعة الريحان)، وبمرور السنين اضمحلت صورته وبهتت ملامحه، ثم، لم يعد له وجود في رأسي إلا بشكل خاطف يمر مثل طيف سريع لشاب جميل كان اسمه ريحان، واعتبرت علاقتي به نوعاً من أنواع الطيش لصبية لم يتكور نهداها بعد·
عندما بلغ محمود الرابعة عشرة من العمر وكنا ما نزال نعيش في بيتنا القديم مع جدتي مسعودة، دخل سجن الإصلاحية لمدة عام بسبب سرقته دراجة من محل عبود القريب من البيت، لم تزره أمي أبداً لكن جدتي مسعودة كانت كل شهر تعد له الطعام والحلوى وتذهب من الصباح الباكر لرؤيته، وعندما انتهت مدة محكوميته خرج من الإصلاحية ترافقه فرقة موسيقة أجّرتها جدتي لتأتي به إلى البيت كما لو أنه تخرج من الجامعة، لم يواصل محمود دراسته بل عمل في مهن رخيصة، بائع سجائر على أبواب السينما، صانع في ورشة نجارة، عامل في مصنع للأحذية، ثم عمل مع تاجر في مزاد للسجاد في شارع النهر، ومن هذا المزاد إلى السجن مباشرة، فقد سرق مبلغاً كبيراً من صاحب المحل انتهى به إلى خمس سنوات في سجن الباب المعظم، وبعد هذه الفعلة اشتعلت المعارك بين أمي وجدتي التي ماتزال تكرر عبارة السجن للرجال، واقتنعت أمي بأن البقاء مع جدتي لا يناسبنا خصوصاً وأننا شابات تتمنى لنا في المستقبل زيجات ناجحة من شأن محمود أن يُفسدها بأفعاله الشنيعة، وأقسمت أن تغادر البيت وتترك جدتي متشفية بها: السجن للرجال ها؟ بناتي لا يشرفهن مثل هذا الأخ الحرامي·
استأجرت أمي بيتاً في السيدية على أطراف بغداد وعلى مسافة ليست بعيدة من بيت عمي نعمان وهو الأخ غير الشقيق لأبي برغم أنها لا تكن له وداً، وقد كانت العلاقة بين أبي وعمي الأكبر سناً منه فاترة لأسباب أجهلها في ذلك الوقت لكن علمت فيما بعد من أمي أن جدتي مسعودة هي التي وسّعت وعمّقت الهوّة بينهما لمجرد أن عمي نعمان هو ابن من امرأة ثانية قبل أن تتزوج جدتي من جدي ·· لكن أمي قالت: مهما يكن فإن العم مثل الأب ونحن نساء بلا ظلال تحمينا في هذا الزمن الصعب وربما سنحتاج إليه ولو شكلياً·
**