You are here

قراءة كتاب الخليج بعد النفط

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الخليج بعد النفط

الخليج بعد النفط

كتاب "الخليج بعد النفط " ، تأليف عبد العزيز خليل المطوع ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

إشراقةٌ

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ، ··}

لن يبرح التاريخ معبَرًا حصريّاً لكل الأقوام من الحضارات والأمم والدول والمجتمعات، ولن يبرح طريقًا مشتركًا ووحيدًا للعبور من مرحلةٍ حضاريةٍ إلى مرحلةٍ تاليةٍ لها، إما إلى إثبات الوجود والتمكُّن والصعود، وإما إلى الانهيار والانزياح إلى هامش المشهد التاريخي، أو ربما الاندثار والاختفاء من المشهد تمامًا؛ وبهذه الحركة التبادلية يبحث العابرون عن موطئ قدمٍ لهم على أي زاويةٍ من زوايا هذا المعبر الزمني الماضي إلى نهايته بأحداثه ومجرياته التقديرية والاختيارية بالإيقاع نفسه، والكل يحاول استخدام منطقته الزمنية وإمكانياته المكانية ومميزاته الثقافية الخاصة من أجل أن يستثمر معطيات ذلك التاريخ وظروفه ومتغيراته، للتشبُّث بفرصته وفرصة أجياله الحياتية مزدهرةً لأطول فترةٍ تاريخيةٍ ممكنةٍ، في سبيل الوصول إلى غاياته الكبرى، ومن أجل إمهار التاريخ ببصمته الحضارية؛ هنا تتفاوت الفرص الممنوحة والمكتسبة في الوفرة وفي الإمكانية وفي الاتجاه وفي الفاعلية الحضارية، بين أشكال الاستقرار السياسي والانتشار الجغرافي، والكثرة العددية، والتطور المعرفي والفكري، والدافع الإيماني والعقيدي، وحالة الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، والأمن القومي والعسكري، والإنتاج الثقافي والفني؛

هكذا، تنال تلك الحضارات والأمم والدول والمجتمعات أنصبتها المتساوية من الفرص التاريخية الكاملة للوجود والبقاء، وتحصل على منحتها الإلهية المناسبة من الفرص والإمكانات الحياتية بالإعطاء وبالديمومة، من أجل أن تتحرك في أفرادها وفي أنظمتها السياسية وفي أعرافها وتقاليدها الاجتماعية دوافع الوفاء والاعتراف بالجميل لتلك المنحة الإلهية، من خلال لمسة الوفاء التي تُترجَم بالاستمساك بالمنهج الربَّاني الذي يعطيها فرصةً إضافيةً مفتوحةً تضمن للفرصة الأولى استمرارية الرفاهية والحضارة والتمكين والتنامي؛ وبذلك فإنها تكون قد استوفت كل احتياطاتها التاريخية لتستبقي مكتسباتها الحضارية في منأىً من استيفاء الشروط المستوجبة لتطبيق الناموس الكوني، واستحقاق رد الفعل الإلهي العادل بإحداث التغيير المؤدي إلى استلاب فرصة التاريخ أو بانتزاع فرصة الحياة؛

{··، حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ، ··}

ولكن تلك الحضارات والأمم والدول والمجتمعات، بلا استثناءاتٍ، لا تحتمل هذا الكرم الرباني الفيَّاض، وقد تذهب إلى أبعد من ذلك، فتتناسى، في خيانةٍ سافرةٍ للنفس، معاناة البدايات الصعبة، وحالات الحاجة والنقص والجوع والخوف، فتتمادى في اعتماديتها على حالة الوفرة والاستقرار والتمكين، أو على حالة البَطَر الحضاري، لتصيبها بأعراض الاعتماء الاستراتيجي، وفقدان الذاكرة التاريخية، وبارتخاء المفاصل الإنتاجية والإبداعية، فتقع في فخ التفريط في مهمة إعمار الأرض؛

كما تتمادى تلك الأمم والحضارات والدول والمجتمعات في ممارستها لحالة الغرور الفكري، وارتكاب حماقة التغافل عن التأييد الإلهي وخيانة ميثاق الأمانة القيمية والإيمانية، وانطفاء الوازع الروحي والأخلاقي، وتَجاهُل التأثيرات والنتائج الفادحة للمعادلات التي تصنعها ظروف الندرة والمنافسة، وتَنَاسي المعادلات الكونية الحاكمة لآليات ونتائج الصراع من أجل البقاء؛ لتصيبها بأعراض الجرأة على عقد المقارنات التفضيلية للفكرة البشرية على حساب التعاليم والأوامر الإلهية، وبذلك تقع في فخ التفريط في مهمة العبودية لله سبحانه؛

وهكذا تكون تلك الحضارات والأمم والدول والمجتمعات قد استوفت كل عوامل التنصل من مسؤولية احتمال المنهج أو الرسالة، وتكون قد تقاعست عن الوفاء بضريبة الحق الإلهي، وتكون قد أخطأت في استبقاء متلازمة العلاقة بين الحاجة البشرية المستمرة وبين المقدرة الإلهية المطلقة داخل نطاقها المحدد بشروط العبودية والإذعان والاستسلام لله وحده؛

وهكذا تكون قد وقعت في فخ التاريخ، وأعطت قوانينه ونواميسه ومعطياته وشروطه كل المسوغات وكل المبررات وكل الأعذار لكي تنتزع منها فرصتها الحياتية، ولكي تُخرجها من صراع التنافس وقد خسرت أهم مكتسباتها الحضارية والاستراتيجية، ولكي تُخرجها من صراع البقاء وقد خسرت وجودها على هذا المعبر الذي لا يقبل إلا بمن يلتزم بقوانينه ونواميسه ومعطياته وشروطه، وتخسر بالتالي فرصتها التاريخية؛ وعلى هذا المنوال الثابت، يمضي مجرى التاريخ إلى نهايته مُلقيًا على هوامشه بكل تلك التجارب الحضارية التي انتهت صلاحيتها البقائية لاغترارها بمجرد الاستحواذ المادي على إمكانات النعمة من مقدرة الموارد أو مقدرة العلم أو مقدرة القوة، ولاعتقادها بأنها قد أصبحت قادرةً على تسخير تلك الإمكانات لإحداث أي تغييرٍ تريده، ولو كان يُخرجها من إطار المنهج الإلهي؛

{··، وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} (سورة الأنفال)(1)

على هذا المشهد التغييري الحاسم، يتجلى الحضور الإلهي بالمقدرة المطلقة، ليُذكِّر الإنسان والمجتمع وليُؤكِّد لهما، بأن كل المحاولات التغييرية، التي اعتمدت في موقفها الحضاري وبنائها القيمي على الحيدة عن الحق وانحيازها إلى الباطل، ممهدةً الطريق الى إحداث تلك النقلة التغييرية الطائشة في حياة المجتمع، والقائمة على الأفكار والمعتقدات والتيارات والمناهج المتعارضة والمتصادمة مع منهج الحق؛ وبأن كل الأقوال والطروحات والآراء والجدالات والمحاورات والمشاورات والمناقشات والمداولات ووجهات النظر التي انبثقت منها تلك المحاولات التغييرية، ومعها التوصيات والتوجيهات والقرارات والأحكام التي قادت إليها، لا يمكنها أن تخرج عن الإحاطة السمعية الإلهية، لأنها جميعها محكومةٌ بالدوران ضمن نطاق الملكوت الإلهي، ولكنها تظل اختياراتٍ تغييريةً متروكةً بعلم الله ومشيئته لتمضي إلى مصائرها ومآلاتها ومواقيتها وفق نواميس حركة التاريخ، ووفق أقدارها المحتومة؛

ومع أن هذا الانكشاف السمعي هو على الحقيقة كما وقعت في زمنها، فإنه يظل واقعًا إجبارًا لا طواعيةً تحت الإحاطة الإلهية القَدَرية، بالعلم اللَّدُني المُطلق الذي يحيط بالمسموعات من الأقوال والآراء قبل أن يُصرَّح بها، ويحيط بحقيقة النوايا والدوافع التغييرية قبل أن يُعلن عنها، ويُحيط بالخطط والتنظيمات والبرامج والمشروعات من أجل إحداث المحاولة التغييرية قبل أن تُبذل، ويُحيط بالأدوات والأساليب والطرائق والتجارب من قبل أن تُستخدَم لإنجاحها، ويُحيط بالشخوص التي ستحمل على كاهلها أوزار هذا العداء وهذا التعالي على منهج الحق، ويُحيط بالنتائج والمآلات والعواقب والإخفاقات والكوارث والمآزق المأساوية التي سينتهي إليها أولئك الأقوام البائسون من قبل أن تجتاحهم على الحقيقة·

وهكذا تكون كل المحاولات التغييرية الخاطئة واقعةً بين حاصرتين، لأن الآية السابقة (رقم 52) تعرضت لجنوح الأمم الى عدم التصديق بالمنهج الإلهي وبقوانين التاريخ، وإلى محاولة طمسه استنادًا إلى القواعد الإيمانية الباطلة (الكفر بآيات الله)، ولترتيب أولوياتها الحضارية على خلاف معطياتهما، فكانت النتيجة استحقاقها لعقوبة الأخذ أو استلاب الفرصة التاريخية بالحرمان والإقتار في الإمكانات والموارد؛ أما الآية اللاحقة (رقم 53) فقد تعرضت إلى تجاوز الأمم لمرحلة عدم التصديق وإنكار الإيمان إلى المبادرة إلى مناهضة المنهج الإلهي، والجنوح إلى محاولة إلغائه بجحود المنح الربانية من الإمكانات والموارد، وتوجيهها إلى مصادمة ذلك المنهج (التكذيب بآيات الرب) استنادًا إلى انتحال الأسباب وتلفيق التبريرات الفكرية والعقلية الجدلية، فكانت النتيجة استحقاقها لعقوبة الإهلاك أو الاندثار والاستئصال بانتزاع فرصة الوجود؛ وهكذا فإن إحدى هاتين الحتميتين التاريخيتين ستظل مترصدةً بكل التغييرات الحضارية الحائدة عن منهج الحق، مهما استمتعت بالمدى الزمني الاختباري أو الابتلائي لفرصتها التاريخية·

Pages