لقد قامت مجموعة من كتّاب الرواية العربية -لا سيما في الستينيات- بالعودة إلى التراث السردي العربي، في إطار حركة موسعة ثارت على تقاليد الكتابة الروائية التي أرساها كتّاب الرواية الرواد والجيل الذي تلاهم؛ فألفوا شكل الرواية الغربي مهيمناً على تجارب الكتابة باس
You are here
قراءة كتاب الرواية والتراث ألف ليلة وليلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
كيفية العودة إلى التراث في الرواية العربية
لعله من الضروري أن تكون عودتنا إلى التراث العربي وقراءته وتوظيفه، عودةً حداثية (قراءة عصرية) هدفها "جعل المقروء [التراث] معاصراً لنفسه على صعيد الإشكالية النظرية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي؛ أي قراءته في محيطه الاجتماعي التاريخي من جهة، وفي الوقت ذاته جعله معاصراً لنا، من جهة أخرى، على صعيد الفهم والإيديولوجيا"[37].
ماذا يعني ذلك في التوظيف أو الاستلهام الروائي للتراث ولألف ليلة وليلة تحديداً؟
قد يعني هذا الاستلهام نوعاً من إيجاد حلقة وصل بين المكوّن الرئيسي للقارئ العربي -الذي هو في معظمه تراثي أساساً- وبين الأعمال الروائية، مما قد يؤدي إلى أنْ يتفاعل القارئ مع العمل الروائي بشكل أفضل، الأمر الذي قد يشعره أنَّ النص الروائي المعاصر لم ينفصل تماماً عن ماضيه و حاضره.
وقد يتيح "إعادة قراءة الماضي بطريقة نقدية، وأيضاً إعادة ربطه بالحاضر، لأن التاريخ، بالإضافة إلى كونه كلاً متصلاً، أو سلسلة مترابطة، فإنه لا يمكن فهم الكثير من وقائع الراهن دون ربطها بما قبلها، بالأسباب التي أدت إليها. وبهذا المعنى فإن الرواية التاريخية، بنماذجها الجدية، بمقدار ما تستعير من الماضي أحداثاً وأشخاصاً ووقائع، وشواهد أيضاً، فإنها تفعل ذلك من أجل التعامل مع واقع راهن، ومع مشاكل قائمة. بكلمات أُخرى: إن الرواية التاريخية، بالمعنى الجدي، حين تلجأ إلى الماضي، تختار من هذا الماضي ما يناسب المرحلة الراهنة وما يستجيب لها"[38].
وقد لا تكون عملية توظيف التراث واستحضاره عملية استنساخية، بل عملية إبداعية دائمة التشكل، وأنَّ جوهر التراث يمكن أن يكون "في حراك مستمر، أي أنه خاضع لعملية إبداع دائمه"[39]. وذلك بإنجاز جديد للتراث، يكون الواقع هو المحرك له، بمعنى أن الواقع هو الذي يفرض شروطه على التراث، أو هو المحرك الأساس الذي عن طريقه يتم توظيف التراث في الأعمال الأدبية في ضوء الواقع، وليس العكس. فالمعطيات المباشرة للواقع هي "التي نتحرك عليها وهي الأصل المباشر لأحوالنا. إنها منبع الحياة والعقل، والمصدر الذي تتفجر منه مشكلاتنا وقضايانا المصيرية. وأول ما ينبغي التصدي له هو الواقع، لأنه هو الحياة. وليس معنى ذلك أن عقولنا وأفكارنا ينبغي أن تتشكل وفقاً للواقع باعتبار أنه ذو قوانين نهائية ملزمة، وإنما معناه أن فهم حركة الواقع وبنيته شرط ضروري لكل فعل، وأن توجيه الواقع وتغييره من خلال هذا الفهم أمر لا مفر منه. وهذا يعني أن الفكر يمكن أن يلجأ إلى تغيير أحكامه وأساليبه في النظر والعمل، في ضوء الواقع، وأنَّ هذا الواقع يجري مجرى لا يتناسب مع متطلبات الفكر"[40].
وقد يعني أن تكون علاقتنا بالتراث وتوظيفه علاقة معاصرة لنا "ولكن فقط على صعيد الفهم والمعقولية، ومن هنا معناه بالنسبة لنا نحن. إنَّ إضفاء المعقولية على المقروء من طرف القارىء معناه نقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ، الشيء الذي يسمح بتوظيفه من طرف الأخير في إغناء ذاته أو حتى في إعادة بنائها"[41].
وتوظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة يستحسن أن يكون توظيفاً إبداعياً ومعاصراً في آنٍ، وإلا تحولت الرواية إلى رواية تاريخية تراثية هدفها إعادة صياغة الماضي وتقديمه بأشكال أو أجناس أدبية جديدة، "فالتاريخية هي استدعاء الزمان للتفكير بالوجود، ولكن، لا الوجود الفردي، بل الوجود في العالم ومع الآخرين، بكل غناه الدلالي والتأويلي"[42].
والعودة إلى التراث لا تكون من أجل تقويضه، وإنما من أجل تثويره وتوظيفه. ويكون ذلك بتسليط الضوء على حقب تاريخية مشابهة وليس مطابقة للواقع، من أجل الكشف عن ماهية الواقع والأسباب التي أدت إلى هذه الماهية. وربط الواقع بالماضي لا يكون عشوائياً؛ لأن الواقع المعاصر لا يتشكل من خلال الماضي (التراث) حسب، بل من خلال معطيات الواقع تمهيداً لفهم المستقبل، فالمستقبل يكون نتاج الماضي والحاضر، وإدراك تكوين الحاضر المتشكل ينبئ بما سيؤول إليه الحاضر في المستقبل، أي أننا نكون إزاء كاتب مثقف عضوي لا تقليدي -بمفهوم غرامشي-[43]، فالأول هو الذي يرتبط بالواقع من أجل فهمه وتغييره، أما الثاني فهو الذي يقبل الواقع دون نقد؛ لأنه مأسور بنظرة ماضوية تقديسية.
إنّ علاقة الكاتب الروائي بتراثه السردي من الممكن ألا تكون علاقة استنساخية، بل علاقة محاورة وتثوير. بمعنى أن هذه العلاقة لا تعكس الانكفاء عليه والاكتفاء به، وإنما هضمه ومجاوزته، أي أن يكون الكاتب متصلاً ومنفصلاً عن التراث في آن. وليس "ثمة تناقض بين التجديد والاستعارة من التراث. فالتجديد في هذا الإطار ينصب على دفع أقصى إمكانات التقدم الكامن في التراث، مع خلق ما كان غائباً أو جنينياً أو مغيباً في السياق التراثي"[44]. فالفنان هنا لا ينقطع عن تراثه ولا يقع في إسار الفن الغربي، وإنما يحاول توظيف تراثه في كتاباته المعاصرة دون إغفال لمنجزات الفنون المختلفة في العالم. وبهذا يخرج الكاتب من التبعية سواء أكانت للتراث أم للآخر؛ ليشكل تجربته الخاصه مستفيداً من الاثنين معاً. وهذه المزاوجة بين التراث والآخر ليست توفيقية أو تلفيقية نظريا؛ لأن الواقع هو الذي فرض هذا الوعي بما ينوء به من "تداخلات وتعارضات ذات طبيعة جدلية"[45]، فالماضي مستمر في الحاضر، والحاضر يتشكل وفقاً للماضي والواقع المعيش.
أي أن العودة إلى التراث في الرواية العربية المعاصرة "ليست مسألة ترتبط بعلائق فكرية أو إيديولوجية بين زمن الحاضر باعتباره زمن الكتابة، والماضي من حيث هو الزمن الذي يرحل إليه الروائي، بل إنها مسألة تطمح من خلال المحاورة التي تقيمها بين عنصرين إلى خلق لغة هي مزيج من لغة الحاضر بتقنياته وأنماط كتابته ولغة عصر سالف بعاداته اللغوية والفكرية"[46].