كتاب " تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية) " ، تأليف عبده مختار ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية)
(4) سياسة السودان الخارجية والخروج من النفق
هذا المقال تم نشره في صحيفة الرأي العام بتاريخ 8/11/1999 (العدد 797) نبه فيه إلى أن للولايات المتحدة استراتيجية لفصل جنوب السودان ليكون ركيزة لاستراتيجية أمريكية في القرن الأفريقي والبحر الأحمـر والشرق الأوسط.
ما فتئت الولايات المتحدة الأمريكية تستحكم حلقات التطويق حول السودان. وهي في هذه الأيام تبدو وكأنها في سباق مع الزمن للتعجيل بالإطاحة بالحكومة الإسلامية في الخرطوم حتى لا تستقوي بعائدات البترول ويطيل أمد بقائها في السلطة.. ويبدو أن الحكومة السودانية في نظر الولايات المتحدة قد عاشت أكثر مما يجب، وأن في استمرارها جرح لكبرياء أمريكا وتحدٍ لهيمنتها على العالم، وتحـدٍ لزعامتها للنظام العالمي الجديد وتمرُّد على العولمة.
في تاريخ الولايات المتحدة الكثير من الأنظمة التي إنهارت في فترة وجيزة بمجرد أن وضعتها الولايات المتحدة في بؤرة الاستهداف الاستراتيجي إلا أن الحكومة السودانية أصبحت عنيدة أكثر من اللازم واستعصت على كل آليات الاستعداء الأمريكي وصمدت أمام كل الضربات من مختلف الجبهات.. فقد انهار الاتحاد السوفيتي بعد أن نخرت الولايات المتحدة في عظامه من خلال استراتيجيتها في الحرب الباردة بمظاهرها المختلفة (الاستقطاب، التطويق والاحتواء، والأحلاف والتكتلات العسكرية وسباق التسلح). وتدخلت الولايات المتحدة في مناطق كثيرة في العالم وغيّرت أنظمة الحكم واغتالت عدداً من زعماء العالم عبر ذراعها القوية (المخابرات المركزيةCIA ) ومن أمثلة ذلك رافائيل ترجيلو في جمهورية الدومينكان 1961، وباتريس لوممبا في الكونغو 1961، ومحاولة إغتيال الزعيم الكوبي فيديل كاسترو (1960 – 1965) وزعيم فيتنام الجنوبية 1963، وشيلي 1973. وتدخلت في جزيرة سيشيل وغزت جرينادا 1983، ونيكاراجوا 1984 وليبيا 1986 (ضربت منزل الرئيس الليبي معمر القذافي وقتلت ابنته بالتبني). وقامت بغزو بنما في 1989.. وفي التسعينات تدخلت في العراق والصومال والسودان (ضربت مصنع الشفاء للأدوية 1998) وأفغانستان (ضرب مواقع بن لادن وطالبان).
دولة عظمى بكل هذا الإرث الكبير من البطش الدولي والتدخلات لم تتمكن من الإطاحة بحكومة دولة فقيرة محاصرة تعرضت لمقاطعة عربية وغربية وحرب في الجنوب واضطرابات في دارفور والشرق ومشكلات مع مصر (حلايب) ونزاع قبلي ونهب مسلح ومعارضة شمالية متحالفة مع التمرد المدعوم من دول الجوار ومنظمة التضامن المسيحي ومجلس الكنائس العالمي وبعض المنظمات الدولية وإسرائيل في التدريب والتسليح، وتقف معها أمريكا بكل قوتها وإعلامها الدولي – لم تسقط حكومة الخرطوم!! بل تنقب وتستخرج البترول والذهب وتستقطب الاستثمارات الأجنبية وتكسر طوق العزلة مع العرب ودول الجوار وأوربا!
كل ذلك استفز أمريكا ودفع بموضوع السودان إلى قمة الأجندة الأمريكية على مستوى الإدارة الأمريكية والكونجرس، وكذلك على مستوى الإعلام الدولي.
إضافة إلى ذلك أن السودان رفع تحديا آيديولوجياً لأمريكا وهو إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية. وليس الجديد لأمريكا هو تطبيق الشريعة الإسلامية وإنما الإسلام الحركي أو ما يُسمى بـ "الإسلام السياسي" الناشط حيث أصبح السودان في نظر أمريكا مركزاً لانبعاث الأصولية. والأصولية بالنسبة للغرب هي صنو للعنف والإرهاب..
لذلك أصبح السودان أحد الأهداف الاستراتيجية في النظام الدولي الجديد الذي هندسته أمريكا عقب إنهيار المعسكر الاشتراكي لإحكام سيطرتها على العالم.. وقد تمكنت الولايات المتحدة من ترويض الكثير من القوى المناهضة لها إلا السودان أصبح مصدر (عكننة) للغطرسة الأمريكية، ولذلك سعت أمريكا بعدة طرق لتأديبه..
إن سلوك الولايات المتحدة تجاه السودان في الآونة الأخيرة ما هو إلا ردة فعل لهذه (العكننة) السودانية حيث تولت وزيرة الخارجية الأمريكية ملف السودان بنفسها ولم تكتف بإرسال المبعوث الخاص حيث أصبح السودان بالنسبة لأمريكا "حالة خاصة". ووضعت الإدارة الأمريكية خطة استراتيجية للإطاحة بحكومة الخرطوم وفصل الجنوب(2).. ، بتوحيد المعارضة ودعمها، وكذلك بالاستعانة بدول الجوارالأفريقي وإحياء الحلف الأمريكي القديم في المنطقة.
وكذلك تشرف إسرائيل على تنفيذ هذا المخطط حيث قامت بتدريب ضباط من الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA) في إسرائيل.. والآن تسعى أمريكا لضرب السودان في أهم إنجازاته وهي النفط ليس بدعم المعارضة للضربة العسكرية المباشرة بل أيضاً بالضغط على الشركات الأجنبية لكي تقطع استثماراتها في السودان. فقد نشرت صحيفة قلوب ميل الكندية Globe Mail في افتتاحيتها يوم 29/10/1999 تعليقاً جاء فيه "أن وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين ألبرايت، ضغطت على وزير الخارجية الكندية (لويد اكسورثي Lloyd Axworthy) لكي يضغط على شركة تاليسمان Talisman الكندية لسحب استثماراتها في النفط السوداني.. كذلك بدأت الولايات المتحدة تضغط على الصين لكي توقف استثماراتها في السودان حيث تقول آخر التقارير إن الشركة الصينية التي تملك 40% من عمليات انتاج البترول الحالي هي شركة (CNPC) أصبحت واقعة تحت ضغط المساهمين الأمريكيين بسحب استثماراتها من السودان كشرط لإعادة هيكلة الشركة وفق آخر صفقة مع مساهمين أميركيين بأسهم في بورصة نيويورك حيث يكون رأس المال للوضع الجديد للشركة ما بين خمسة إلى ثمانية بلايين دولار، وأكبر المساهمين هي الشركة الأمريكية جولدمان ساشس Goldman Sachs. غير أن بعض المراقبين يتوقع ألا تنجح هذه الضغوط الأمريكية التي تهدد بإدخال أية شركة تتعامل مع السودان في مظلة العقوبات الدولية. في هذه الأثناء تسعى الولايات المتحدة لإفشال مساعي المصالحة والوفاق الوطني وذلك من خلال تصعيد الخلافات والفتن بين شمال السودان وجنوبه. كما تستعد الولايات المتحدة لتنفيذ مخطط آخر جديد إذا لم تستجب الحكومة السودانية لشروط المتمردين في الجنوب.. وفي ذات السياق تبنت الإدارة الأمريكية اتجاهات مجلس الشيوخ الأمريكي لإجبار الحكومة السودانية بخطة سلام مع متمردي الجنوب وهي خطة أشرف على إعدادها مستشارو الأمن القومي الأمريكي، وتهدف الخطة إلى تحقيق إنفصال الجنوب. ولذات الهدف تتحرك الولايات المتحدة الآن تقطع الطريق من أمام المبادرة الليبية/المصرية لأنها سوف تسحب البساط من مبادرة الإيقاد بما لا يضمن تحقيق مصالح أمريكا في المنطقة.
وتأتي هذه الخطوات من الإدارة الأمريكية كاستجابة لمذكرة قدمها الكنونجرس الأمريكي في منتصف هذا العام ركزت على الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للجنوب السوداني في إطار تنفيذ التوجه الاستراتيجي الأمريكي في أفريقيا والشرق الأوسط معاً.. واعتبرات المذكرة الجنوب السوداني محوراً رئيسياً لتحريك العديد من الأحداث المهمة في مناطق القرن الأفريقي والبحر الأحمر والشرق الأوسط.. وهذه بعض من ملامح الاستراتيجية الأمريكية ضد السودان والتي تشهد الآن سيناريو ساخناً لتنفيذ بنودها بقيادة (المايسترو) مادلين ألبرايت ومساعدة سوزان رايس وبعض أعضاء الكونجرس الأمريكي ومن خلفهم اللوبي الصهيوني. المهم في هذا الصدد هو مدى إدراكنا لأبعاد هذا المخطط وتفاعلاته الدولية وانعكاساته الآنية والمستقبلية على السودان. وفي هذا الإطار ينبغي أن ندرك وأن تضع سياستنا الخارجية في الاعتبار البيئة الدولية الجديدة ومتغيراتها الراهنة.
ومما لا شكل فيه نحن نعيش عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة وغطرسة القوة، وأن عصر الشرعية الدولية قد ولّى، وأن سلوك الولايات المتحدة في العالم الذي يرتكز على فلسفة الذرائع والبراجماتية يستلزم وضع تدابير مضادة لهذا المخطط ووضع استراتيجية تناسب المناخ الدولي الجديد..
الرأي العام، الخرطوم: 8 نوفمبر 1999م (صفحة 7).