كتاب " تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية) " ، تأليف عبده مختار ، والذي صدر عن دار الجنان للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

تأملات في السياسة والمجتمع السوداني - (مقالات في الأزمات السياسيـة والقضايا الاجتماعية)
(2) الإسلام العلماني ومشكلة الخطاب
كنتُ خارج السودان عندما تناولت الصحف خبر منع إمام جامع لفنان شاب من الصلاة في الصف الأمامي، ولم أتابع – في النيت - تفاصيل التعليقات. ولكن دارت هذه الحادثة في مخيلتي بينما كانت تقف أمامنا، في نيروبي، أستاذة بريطانية شابة من جامعة سوكس وهي تقدم محاضرة حول المناهج العملية ضمن برنامج الشراكة الأفريقية لبحوث الحكم والسياسات العامة وتخفيف الفقر (3- 10 مارس 2012).
العلاقة بين هذا الخبر وهذه البريطانية (الدكتورة شندانا) هي أنني عندما تعرفتُ عليها سلفاً في فترة القهوة (كوفي بريك) علمتُ أنها بريطانية من أصل باكستاني ومتزوجة من برتغالي. لكن المعلومة المهمة هي أنها مسلمة، لكن زوجها غير مسلم. ومن مظهرها يمكن أن نطلق عليها مفردات الإعلام الغربي في تصنيفه للإسلام بأن إسلامها (علماني). فهي في مظهرها مثل أي إمرأة غربية (سافرة) تماما! وقد لا تحمل من الإسلام إلا الشهادة والإجهار بهوية الانتماء عند الضرورة – أي أنها لا تصلي ولا تصوم.. ولا علاقة لأبنائها بالإسلام، بحسب ما قالت لي.
هذه الصورة أهديها لهذا الإمام ولمثله من الأئمة الآخرين وأقول لهم: هل الأجدى توجيه الدعوة الإسلامية لمثل هؤلاء حتى يفهموا الدين ويمارسوا تعاليمه بصورة صحيحة أم نعمل على (تنفير) مَـن هو مسلم عن الصلاة؟ ألا يكفي أن هذا الشاب أنه ملتزم بالدين لدرجة الحرص على الصلاة ليس في المسجد فقط بل وفي الصف الأول؟ أليس في ذلك نعمة كبيرة أن يكون ذلك الشخص الحريص على الصلاة في الصف الأول هو (شاب وفنان)؟
لو كنتُ مكان ذلك الإمام وعرفتُ أن هذا الشاب هو فنان لوقفتُ بعد الصلاة مشيدا به وبحرصه على الصلاة في الصف الأول في المسجد تحفيزاً لبقية الشباب بأن يحذو حذوه. ثم بعد ذلك إذا كان عندي رأي في فنه فيمكنني أن أختلي به وأناقشه في ذلك. هذه الحادثة تقودني إلى مشكلة الدعوة والخطاب الإسلامي المعاصر. لكن قبل أن أشير إلى مشكلة الخطاب الإسلامي المعاصر أشير إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن الإسلام انتشر سلمياً وبالقدوة والسلوك والقيم أكثر من ما انتشر بالسيف في عصر الفتوحات الإسلامية.
فقد تعرضت الدولة الإسلامية لهزة سياسية عنيفة بعد أن هاجمها المغول في القرن الثالث عشر ودمروا بغداد عاصمة الدولة العباسية. وتوقع البعض أن يسبب ذلك انتكاسة للحضارة الإسلامية التي تحولت لحضارة عالمية. لكن في الواقع حدث العكس: على الرغم من الانحطاط التشظي السياسي، لم تحافظ هذه الحضارة على تماسكها الداخلي فحسب، بل حققت أيضاً أعلى درجات الازدهار الثقافي وانتشرت على نطاق عالمي أكثر من ما حققته الفتوحات العربية التي تمت في القرنين السابع والثامن الميلادي . لذلك ركزت غالبية الدراسات الأخيرة على المؤسسات والشخصيات الذين وفروا للمجتمعات المسلمة تماسكها الداخلي وتوجهها الروحي عندما فقدت الحضارة الإسلامية التحامها على الصعيد السياسي. من أبرز هؤلاء كانوا العلماء والأولياء والمتصوفين الذين طوروا بدءً من القرن الثامن الميلادي مجموعة كاملة من الشعائر والتعاليم والنظم القانونية والأعراف الاجتماعية، والتقاليد الروحية، وأشكال الطباعة وأساليب الدراسة ومدارس الفلسفة التي ركزت وبيّنت لُب وجوهر الحضارة الإسلامية.
لاحظ الباحثون إن التحول الجماهيري الكبير في الإسلام لم يحدث في عهد الخلافة المركزية القوية ولم تحققه ثقافة البلاط والأشكال الأدبية والإسلامية الأولى لهذه الثقافة؛ بل حصل هذا التحول مع تفكك الإمبراطورية العباسية عن طريق المدارس والمذاهب الفقهية والطرق الصوفية. ففي الفترة من القرن العاشر وحتى الثالث عشر أمسك رجال الدين بزمام القيادة في المجتمعات المحلية وبثوا الإسلام فيها وأعادوا صياغة هذه المجتمعات، وذلك بسبب انهيار النخب القديمة من ملاك الأراضي الذين حلّ العسكر العبيد أو البدو مكانهم. لقد خرج العلماء عن عزوفهم السياسي وحلّوا مكان النخب القديمة. لم يشكل العلماء طبقة بل جماعات كانت فوق الانقسامات المحلية وتمتعت بحس عميق بالأمة عن طريق المذهب أو الطريقة الصوفية. وكانت رحلات العلماء طلباً للعلم وكذلك الصوفية والتجار تساهم في تمتين وحدة المجتمع وتربط بين مختلف الجماعات المحلية.
إذن كان للخطاب وللدعوة الإسلامية الدور الأكبر في اندياح الإسلام في العالم. فقد وصل الإسلام لكل أصقاع الدنيا. وقد شعرتُ بالفخر عندما ذهبت إلى عدة دول ووجدتُ للإسلام حضورا كبيرا ويُرفع الآذان وتُقام الصلوات في المساجد، وحضرت صلوات العيد في بعض هذه الدول غير العربية وتٌقدم الخطب باللغات المختلفة والصلاة والتلاوة باللغة العربية. شاهدتُ ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفريقيا وماليزيا وكينيا وغيرها.
وفي كينيا القريبة بلغ عدد المسلمين نصف السكان في دولة علمانية (قدمتْ لي هذه المعلومة بروفيسر كينية مسيحية/كاثوليكية) لكن يحتاجون للتوعية، يحتاجون للدعاة ليتعلموا التطبيق السليم لتعاليم دينهم. هؤلاء يحتاجون للكثير من الوعظ والتوجيه لكي ينتشر الإسلام بالصورة الصحيحة طالما أنعمنا الله بنعمة انتشاره. إلى هؤلاء يجب توجيه الدعوة والجهود بالخطاب الإسلامي المعتدل وليس بالتصرف المتعسف.
أذكر ذات مرة استمعتُ لشريط (كاسيت) في مكان ما في السودان، يتحدث في الشريط أحد الوعاظ بصوت جهير وعال جدا وبقوة، فقلتُ لمن كان يجالسني "هذا الداعية طلّلعنا كلنا كفار" وأدخلنا النار"! وكل حديثه مسنود بآيات العقاب والوعد والوعيد، وكأن الإسلام ليس فيه باب للتوبة وليس فيه رحمة.!
تكمن مشكلة الخطاب الإسلامي في أن كثيرا من دعاتنا متشددين بينما ديننا هو دين الوسطية والاعتدال: ((وجادلهم بالتي هي أحسن))... و ((لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك..)).. و((وجعلناكم أمة وسطا...)). كما تكمن مشكلة الدعوة عندنا في تخلف أسلوب الدعوة وجمود الخطاب. هنالك نماذج جيدة غير أنها محدودة: فهناك عمرو خالد الذي استطاع أن يخاطب الشباب باسلوب العصر، فانجذب له الشباب ذاته الذي كان مهووسا بالقنوات الفضائية الغنائية. وهناك نموذج الشيخ محمد أحمد حسن والدكتور عصام أحمد البشير، نماذج ينبغي أن تنتشر وتسود خطابنا وأسلوب دعوتنا لأن معظم الدعاة عندنا ما زالوا أسيرين لخطاب الماضي ويعملون على (تحنيط) الدين..
السوداني: 19/3/2012