كتاب " النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث " ، تأليف نبيل عبد الحميد عبد الجبار ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فلقد كثر الحديث عن التأثير (الخطير) الذي أحدثته الحملة خلال السنوات الثلاث التي أمضتها في مصر، باعتبارها تمثل بداية تعرف العرب على الغرب وانفتاحهم عليها، فجأة دون تنبيه أو إعداد وفي أهم مراكز الأقاليم العربية"([73]). وبالتالي باعتبارها أول مواجهة بين الثقافة" التقليدية" العربية- الإسلامية- العثمانية الطابع، التي تشبع بها المجتمع المصري، والثقافة الأوربية الحديثة بما تنطوي عليه من تقدم علمي وإنجازات تقنية أو تكنولوجية، ويبدو لي، في ضوء الواقع والحقائق التاريخية التي اطلعنا عليها آنفا، أن هذا التقويم لدور الحملة الفرنسية وعزو اليقظة العربية الحديثة إلى تأثيراتها المباشرة، ينطوي على شيء من المغالاة، فلم يمن التواجد العسكري الفرنسي على أرض مصر يمثل أول شكل من أشكال التماس الحضاري بين المشرق العربي والغرب الأوربي، فلقد عرف المشرق العربي، قبل ذلك بفتوة طويلة، التجارة الأوربيين ورجال الإرساليات التبشيرية، كما لم تكن المطبعة التي جلبها نابليون معه أول مطبعة عرفتها بلاد الشرق وتحديدا البلاد العثمانية، وعلاوة على ذلك فإن انشغال رجال الحملة، طيلة السنوات الثلاث لوجودها في المشرق العربي، بالأعمال العسكرية- سواء تلك التي تطلبتها محاولة نابليون غزو الأجزاء الساحلية في سورية، أو تلك التي تطلبتها حماية نفسها من الأخطار التي أخذت تتهددها، الحظر الخارجي المتمثل بتقدم الجيش العثماني، المدعوم بقوات بريطانية، نحو مصر بهدف استعادتها، والخطر الداخلي المتمثل في الثورة والمقاومة المسلحة التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي- أقول أن انشغال رجال الحملة بذلك قد حال دون تمكنهم من ترسيخ النظم والتدابير والإجراءات التي سعي نابليون إلى تطبيقها، كما أن المحاولات المستمرة التي قام بها رجال الحملة، ولاسيما العلماء من أعضاء المعهد المصري، من أجل كسب ود المصريين وتعاطفهم معهم لم تسفر عن أحداث تأثير يذكر في تفكير المصريين وموقفهم منهم، بل وحتى الفئة (الطليعية) والمستنيرة في المجتمع المصري، المتمثلة في المشايخ ورجال الدين الذين راهن عليهم نابليون وحاول استمالتهم واستخدامهم كوسيلة لاقناع العامة بقبول السلطة المحتلة- حتى هؤلاء ظلوا في قرارة نفوسهم غير متعاطفين مع السلطة وممثيلها وإجراءاتها، الأمر الذي جعل السلطة الفرنسية تعاملهم معاملة فضة([74])، وإذا كانت الانتصارات العسكرية التي حققتها الحملة على قوات المماليك، في بداية غزوها لمصر قد تركت بعض الآثار في أذهان المصريين، فإن تلك الإثارة ما لبثت أن خفت وتلاشت عقب نجاح أهالي ( عكا) في إحباط محاولات نابليون المستميتة من أجل احتلال مدينتهم وإرغامهم إياه على صرف النظر عن مشاريعه الطموحة وتقهقره راجعا إلى مصر يجر أذيال الهزيمة([75]). بل أن المصريين ما لبثوا أن شهد وأقوات (الخليفة) تلحق الهزيمة بقوات الحملة الفرنسية (بغض النظر عن الدعم البريطاني الذي ساندها) وتستعيد منها (أرض الإسلام)، وتعيد الأمور إلى نصابها لكي تغدو مصر، كما كانت، ولاية عثمانية يتولى مقاليدها وال عثماني (هو محمد باشا حرو) ([76])، إن كل هذه الأمور كانت كافية لإقناع المصريين بأن نهجهم في الحياة نهج سليم، أو بالأحرى أن ليس هناك ثمة داع يدعوهم لأن يتخلوا عن نهجهم ويتبنوا نهج (الغزاة) وعلومه، وحتى استثناء الوحيد في هذا المجال، والمتمثل بالشيخ حسن العطار ودعوته إلى الأخذ بعلوم الغرب، لم يقدر له أن يحدث تأثيرا عاما بسبب موقف علماء الأزهر المناوئ لهذه الدعوة([77])، وتبعا لذلك يمكننا القول أن الحملة الفرنسية لم يتسن لها أن تؤثر مباشرا في أوضاع مصر ولا أن تخلف بصمات واضحة في الحياة الثقافية للمصريين، الذين هللوا لمغادرتها وتنفسوا الصعداء لتخلصهم من نيرها([78]). بيد أن هذا لا يعني أنها لم تترك أي أثر على الإطلاق، بقدر ما يعني أن تأثيرها كان محدودا وعلى نحو غير مباشر، تمثل على وجه التحديد في إنها غدت بالنسبة لمحمد علي، الذي تولى مقاليد الأمور في مصر فيما بعد، نموذجا يقتدي به وألهمه السبيل الذي يتعين على مصر أن تسلكه لكي يكون لها شأن ما في الشرق، كما سنبين فيما بعد.
وهكذا، وبعد ثلاث سنوات من التواجد القلق على أرض مصر، أرغمت الحملة الفرنسية، في 18 تشرين الأول 1801، على الجلاء نهائيا، دون أن يتسنى لها تحقيق أي من المهام التي حددتها حكومة الإدارة لقائد الحملة- نابليون.
وفي خضم حالة الفوضى والاضطراب التي شهدتها مصر، عقب جلاء الحملة الفرنسية، نجح محمد علي، الذي كان ضابطا في القوة الألبانية الصغيرة التي أرسلها العثمانيون ضمن جيشهم لطرد الفرنسيين من مصر ثم ما لبث أن عينه محمد باشا خسرو- الوالي العثماني قائدا لتلك القوة- أقول نجح في أن يقنع المصريين بصلاحيته لأن يتولى تدبير أمورهم، وبعد سلسلة من المناورات التي أحكم تدبيرها، اجتمع في 12 مايس 1805 مع المشايخ وعلماء الدين في المحكمة وانتخبوه واليا على مصر، وقام شيخ مشايخ الأزهر- الشيخ الشرقاوي والسيد عمر مكرم- نقيب الإشراف، بتقليده خلعة الولاية وحرروا وثيقة ضمنوها دواعي ومبررات اختيارهم إياه وأرسلوها، بعد تصديق القاضي عليها، إلى الباب العالي لكي يصدر فرماناً – قراراً- بذلك، وفي 9 تموز وصل رسول السلطان يحمل الفرمان السلطاني الذي يقر فيه تولي محمد علي ولاية مصر (اعتبارا من 18 حزيران 1905) ([79]).
ومنذ ذلك التاريخ أخذت مصر- ومن خلالها المشرق العربي- تشهد خطوات حثيثة من اجل الانفتاح على أوربا والتفاعل بشكل أوثق مع مظاهر حضارتها وما حققه العلم فيها من انجازات وتطورات.
لقد كان محمد علي، بنشأته المتواضعة وضآلة نصيبه من التعليم، يمثل نموذجا لأولئك الحكام المغامرين الطموحين الذين يسخرون ذكاءهم الفطري الحاد لتطويع الظروف المحيطة بهم وجعلها في خدمة الأهداف التي يعتقدون أن المقادير قد هيأتهم لتحقيقها، وهو بحكم كونه (عثمانيا) بل وجزء من الآلة العسكرية العثمانية، كان بإمكانه أن يتحسس عن كثب ما آلت إليه حالة الجيش العثماني من ترد وضعف، ويبدو أن استمرار هزائمه على الرغم من محاولات الإصلاح التي قام بها السلاطين العثمانيون المتأخرين، جعله يقتنع بعدم جدوى الأسلوب الذي اتبعوه في الإصلاح لقد بداله أن الإصلاح الحقيقي لا يكون من خلال تنقية (الدم) الفاسد الذي يسري في كيان الجيش ولا بمحاولة إحياء (روحه) المتماوته، بل يكون من خلال تغيير (دم) الآلة العسكرية أو مدها بـ(دم جديد طازج) وتقمصها (روحا) جديدة نشطة وثابة، أما (الدم الجديد) فقد استمده محمد علي من الفلاحين المصريين الذين عمل على تجنيدهم (وذلك عملا بمشورة القنصل الفرنسي في مصر) والاستعاضة بهم عن الأجناس المختلفة التي كانت تشكل قوة مصر العسكرية قبل ذلك- ( الترك والألبان والمغاربة والأكراد) ([80]). وأما (الروح) الجديدة فقد استمدها من النظم والأساليب الحديثة التي كانت تتبعها الجيوش الأوربية- ولاسيما الجيش الفرنسي، بعد أن تولى قيادته نابليون بونابرت وهناك ثمة دلائل على انه كان، منذ صدر شبابه، معجبا بفرنسا وما تحكمه نهضتها من روح جديدة وثابة، وإنه قد أعجب، على الأخص، بشخصية نابليون وحاول ترسم خطاه والنسج على منواله، ولعل مما يجدر ذكره في هذا الصدد انه كان يحلو له أن يشيد بأنه ولد مع نابليون في يوم واحد([81]). كما انه كان شديد الميل إلى تتبع أخباره، فطالب بأن تترجم له بعض الكتب عن الثورة الفرنسية وعن نابليون وتقرأ عليه([82]). لقد بدا لمحمد علي أن بإمكانه أن يبلغ ما بلغه نابليون من مجد وعظمة، وإن السبيل إلى ذلك، جيش فطري مطواع (الدم الجديد) يدربه مدربون متمرسون بأحدث الأساليب والمناهج العسكرية والأوربية على أحدث الأسلحة (الروح الجديدة).
أما الغاية التي كان محمد علي يتطلع إليها ويتحرك باتجاهها، فهي: وراثة الدولة العثمانية، بمجدها (العثماني) وممتلكاتها القائمة، وموقعها الهام، وهناك ثمة دلائل على انه اختار أكثر من سبيل للوصول إلى تلك الغاية: فأما العمل على إحياء الإمبراطورية العثمانية، بمطالبة السلطان العثماني تعيينه صدرا أعظم، وإذا تعذر تحقيق ذلك العمل على عزل السلطان والمناداة بمحمد علي خليفة للمسلمين، أو العمل على استقطاع الأجزاء العربية من سيطرة الإمبراطوية العثمانية وإلحاقها بمصر والعمل علي" عودة الخلافة القديمة إلى الوجود خلال سنتين أو ثلاث"([83]). ويكفي للتدليل على أن أفكارا من هذا القبيل قد راودت محمد علي، أن نتأمل الموقف النهائي الذي موقفه من الدولة العثمانية، بعد أن تسنى له إحراز ما كان يسعى إليه من أسباب القوة وبعد أن وصل جيشه، عبر سلسلة من الانتصارات على الجيش العثماني المقهور، إلى مشارف عاصمة السلطنة (وتحديدا قرب مدينة قونية)- فلقد أعلن محمد علي حينذاك انه سيخلص الإمبراطورية من السلطان الفاسد الذي على التقاليد الإسلامية واتبع أساليب الحياة الغربية([84]). والواقع انه لم تكن تفصل بين جيش محمد علي وعاصمة السلطنة عقبة ما، وكان بالإمكان أن يحقق الهدف الذي طالما تطلع إليه وسعى من أجله، لولا تدخل الدول الأوربية (روسيا وبريطانيا على وجه الخصوص) التي اقتضت مصالحها إحباط مشروعة، وبعد ذلك بسبع سنوات تكرر تهديد جيش محمد علي (في عهد السلطان محمود الثاني) لعاصمة السلطنة، عندما حقق نجله وقائد قواته ابراهيم باشا (1789-1848) انتصارا ساحقا على قوات السلطان في موقعه نزيب (نصيّبين) شمال شرق حلب، وفي الوقت الذي كانت البوادر تشير فيه إلى احتمال تحقيق محمد علي لهدفه النهائي، لاسيما بعد أن انضم إليه قائد الأسطول العثماني وألحق قطعاته بالقوة البحرية المصرية، عادت الدول الأوروبية (انكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا) إلى التدخل في النزاع وعمدت في ضوء ما تمليه عليها مصالحها وبعد سلسلة من المناورات السياسية والعسكرية، إلى إرغام محمد علي على التسليم بمعاهدة لندن ( عام 1840) التي قررت، ضمن ما قررته، اقتصار محمد علي وذريته على حكم مصر حكما وراثيا، مع مراعاة ما يرتئيه الباب العالي في هذا الصدد([85]).
أن ما أريد أن اصل إليه من خلال ذلك كله هو: أن محمد علي في انفتاحه على الحضارة الأوربية وإنجازاتها العلمية- التكنولوجية وفي خطواته من أجل تحديث أجهزة الدولة المصرية، إنما كان مدفوعا أساسا بدوافع عسكرية بحته، وإننا يتعين علينا أن نستحضر هذه الدوافع في أذهاننا دائما ونحن نستعرض ما أصدره من قرارات واتخذه من إجراءات، ولعل مما يؤكد ذلك، أن المدارس التي أنشأها، باعتبارها عماد مشروعه والأساس الذي تبنى عليه الخطوات الأخرى في هذا السبيل قد روعي عند إنشائها تغطيتها للاحتياجات العسكرية، وأنها ظلت لفترة طويلة تابعة من الناحية الإدارية إلى (ديوان الجهادية) وإنها ما لبثت، بعد أن هدأ نشاط محمد علي العسكري في آخر المطاف، أن تقلصت وخفض عددها إلى حد كبير([86]).
لقد كان أول ما أولاه محمد علي اهتمامه، في سعيه إلى تحديث أجهزة الدولة المصرية لاسيما آلتها العسكرية، هو إرساء دعائم الأسلوب الأوربي الحديث في التعليم، ولما كانت المؤسسة التعليمية القائمة- ممثلة بالأزهر- لا تستطيع أن توفر له مرامه، فقد بادر إلى إرسال عدد من البعثات التعليمية إلى أوربا، لكي يتحاشى النتائج الضارة لتوثيق علاقاته سواء مع بريطانيا أو مع فرنسا اللتين كان مدركا لتطلعهما إلى ترسيخ نفوذيهما في مصر، فإنه اختار أن يوجه بعثاته الأولى نحو ايطاليا، التي كانت تربط بينها وبين مصر والمشرق العربي عموما روابط تجارية وثيقة ترجع إلى ماض بعيد، وكان من نتائجها نشوء جالية إيطالية كبيرة في مصر، عند وصول محمد علي إلى الحكم، وكون اللغة الإيطالية اكثر اللغات الأجنبية شيوعا ولاسيما بين سكان المدن المصرية الساحلية وعلى الأخص الإسكندرية، وفي عام1809 غادرت أولى البعثات إلى إيطاليا، تبعتها في 1813 البعثة الثانية.
واستمر إرسال البعوث إلى إيطاليا حتى عام 1819، وقد شملت الموضوعات التي أرسل هؤلاء المبعوثين للتخصص فيها- العلوم العسكرية، وبناء السفن والطباعة والهندسة، وفي عام 1826 أرسل محمد علي إلى فرنسا بعثة بلغ عدد أعضائها بعد عامين، أربعة وأربعين طالبا، وفي الوقت ذاته أرسل اثنين من المبعوثين إلى القارة الأميركية، أحدهما إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعلم صناعة السكر والثاني إلى المكسيك لزيارة مناجم الذهب فيها، وبين عامي 1828و 1830 توالى إرسال المبعوثين إلى فرنسا، وفي عام 1829 أرسل عدد كبير من المبعوثين توزعوا بين فرنسا وإنكلترا والنمسا، لدراسة الهندسة وبناء السفن والفنون البحرية، وفي عام 1832 أرسلت بعثتان أخريتان إلى فرنسا لدراسة الطب وموضوعات أخرى وفي عام 1844 بدأ إرسال أكبر البعثات إلى فرنسا لدراسة العلوم العسكرية، حيث بلغ عدد أعضاء هذه البعثة، الذين أرسلوا على وجبات، سبعين طالبا، وكان من جملة الملتحقين بها اثنين من أبناء محمد علي، واثنين من أحفاده (كان أحدهما إسماعيل الذي صار أول خديوي على مصر) وفي عام 1845 أرسلت بعثة طبية إلى النمسا لدراسة الرمد، وإلى فرنسا لدراسة طب الأسنان والطب البيطري والصيدلة وتكرير ملح البارود وتبيض المنسوجات وغير ذلك. وفي عام 1847 أرسلت إلى فرنسا بعثة أخرى لدراسة الطب. وفي العام نفسه طلب محمد علي اختيار خمسة من طلبة الأزهر لإرسالهم إلى فرنسا لدراسة" علم الوكالة في الدعاوى" ثم أرسل في أواخر 1847 أيضا عددا من تلاميذ المكتب العالي لدراسة" أمور السياسة" وعددا آخر من طلبة" المهندسخانة" لدراسة" الميكانيكا والوابورات" والواقع انه من أعضاء هذه البعثات (الذين يتراوح عددهم طبقا للتقديرات المختلفة بين 290و 350) تشكلت الكوادر الوطنية- المصرية التي تولت إدارة المؤسسات والمنشآت والمدارس الاختصاصية العسكرية- والمدنية إلى حد ما([87]).
وقد حاول محمد علي، خلال الفترة الفاضلة بين شروعه في اتخاذ الخطوات الأولى لتحديث أجهزة الدولة وبين عودة الوجبات الأولى من المبعوثين الذين أرسلهم لتحصيل علومهم في أوربا، حاول الاستفادة من الإمكانات الضئيلة المتوفرة لديه، وإنشاء عدد من المدارس الحديثة، وكان لا بد له من تذليل بعض العقبات التي تواجهه في هذا السبيل، فمن ناحية لم يكن من السهل العثور على تلاميذ مؤهلين التأهيل الكافي للالتحاق بتلك المدارس، أو لديهم الرغبة في دراسة العلوم التي طلب منهم دراستها، ولذا فقد وجد محمد علي أن لا مناص من اللجوء إلى الأزهر واختيار النابهين من طلبته وإغرائهم- وأحيانا إرغامهم- على الانتظام في تلك المدارس الحديثة([88]).ومن ناحية ثانية، كانت البلاد تفتقر تماما إلى معلمين متخصصين يتولون تدريس أولئك التلاميذ العلوم المصرية الضرورية، وللتغلب على هذه العقبة عمد محمد علي إلى الاستعانة ببعض المعلمين الأوربيين وللتغلب على هذه العقبة عمد محمد علي إلى الاستعانة ببعض المعلمين الأوربيين الذين كان غالبيتهم في البداية من الإيطاليين ثم انضم إليهم عدد من([89]) الفرنسيين ومن ناحية ثالثة فإن حرص محمد علي على أن تكون لغة التعليم في تلك المدارس هي العربية أقام بوجهه عقبة أخرى تمثلت في توفر الكتب المدرسية التي تغطي مفردات المناهج المقررة في مختلف العلوم العصرية باللغة العربية، وللتغلب على هذه العقبة اتخذ عدة إجراءات في وقت واحد: كان الإجراء الأول هو استنفار جهود جميع المترجمين العاملين في دوائر الحكومة، بما فيهم العاملين في (ديوانه)، وكان غالبيتهم من السوريين، وتكليفهم بمهمة- ترجمة الكتب المدرسية المقررة في المدارس الأوروبية- وعلى الأخص الإيطالية والفرنسية([90]).
التي طلب جلبها وأخذ يوزع ما يصلح منها للتدريس في مدارسه على المترجمين لكي يقوموا بترجمته، وكان الإجراء الثاني هو إعادة طبع الكتب المدرسية التي كانت قد ترجمت قبل إذ إلى اللغة التركية وطبعت في الأستانة([91]). أما الإجراء الثالث: فكان الإيعاز إلى الطلبة المبعوثين إلى الدول الأوروبية للدراسة بموجوب قيام كل فرد منهم بترجمة بعض الكتب المدرسية المقررة عليه في الموضوع الذي يتخصص فيه إلى اللغة العربية وإرسالها بأسرع ما يمكن لكي يتم طبعها في مصر، بل أن هذا الإيعاز سرعان ما تحول إلى شرط لابد للمبعوث من تنفيذه لكي يحق له بعد عودته الالتحاق بإحدى الوظائف الحكومية([92]).
أما الإجراء الرابع، الذي اتخذه محمد علي بغية توفير الكتب المدرسية لتلاميذ المدارس الحديثة التي أنشأها، فكان أن ألحق بالمعلمين الأجانب الذين تعاقد معهم مترجمين يتلقون دروس هؤلاء بلغاتهم الإيطالية أو الفرنسية، ثم ينقلونها إلى اللغة العربية، ثم يدفعونها إلى مصححين لغويين (كانوا غالبا من شيوع الأزهر) حتى إذا أخذت شكلها النهائي باللغة العربية ألقيت على الطلبة، ثم يتم بعد ذلك جمعها وطبعها على هيئة كتب([93]).
وهكذا وبفضل هذه الإجراءات والتدابير صار بالإمكان تهيئة المستلزمات الأساسية للمدارس الحديثة التي قرر محمد علي أنشأها فأنشأ مدرسة الهندسة (1816) والمدرسة الحربية (1822)، ومدرسة الأركان (1825)، ومدرسة الطب ومدرسة الطب البيطري ومدرسة الموسيقى- (1827)، ومدرسة الصيدلة (1829)، ومدرسة المدفعية ومدرسة الفرسان (1831)، ومدرسة القابلات(1832) والهندس خانة ومدرسة التعدين ومدرسة التاريخ والجغرافيا ومدرسة الإدارة الملكية(1834)- وهذه الأخيرة ألغيت بعد عام ونقل تلاميذها إلى مدرسة جديدة خاصة بالترجمة صارت تعرف بمدرسة الألسن.
كما أنشأ في عام (1836) مدرسة الزراعة، وفي (1837) أنشأ مدرستي الطب في الإسكندرية وحلب ([94]).
ولكي يضمن محمد علي تدفق أفواج جديدة من التلاميذ المؤهلين للالتحاق بهذه المدارس "الخصوصية- مستقبلا، عمد إلى إنشاء العديد من المدارس الابتدائية "المبتديان" في الأقاليم، بلغ عددها عام 1836 سبع وستين مدرسة تعد التلاميذ للالتحاق بالمدارس الإعدادية "التجهيزية" التي بدورها تعد التلاميذ للالتحاق بتلك المدارس "الخصوصية" كما انه لكي يضمن توفر الإعداد الكافية من التلاميذ عند إلى "أخذ الأبناء من آبائهم بغير طلب، لعدم استيناس الأمة بالمدارس، أي انه جعل التعليم، في مختلف مراحله، إلزاميا، شأنه شأن الخدمة العسكرية، وعلى هذا الأساس فإن الحكومة كانت تتكفل ليس بتعليم التلاميذ، في المراحل الدراسية الثلاثة، على نفقتها وحسب، بل كانت تتكفل أيضا بطعامهم وكسائهم ومسكنهم([95]).
وبعد عودة أعضاء البعثات التي أرسلها محمد علي للدراسة في أوروبا شهدت مصر حركة ترجمة واسعة، لاسيما وإن محمد علي كان، منذ أن أرسل البعثة الأولى إلى أوربا، كان قد كلف بعض المبعوثين بشراء أعداد كبيرة من الكتب ففي مختلف العلوم العصرية، وفي عام 1824، عندما سعة محمد علي إلى جلب عدد من ضباط المدفعية الذين أراد أن يحقق من خلالهم أساليب التحديث في جيشه، اشترط أن يجلب أولئك الضباط معهم" جميع الكتب التي تتناول أصول الفنون العسكرية التي تخصصوا فيها". كما أن القنصل الفرنسي دروفتي ما لبث أن نقل إلى محمد علي كمية من الكتب، المهداة إليه من قبل ناظر ترسانة بحرية طولون (وهي كتب خاصة) بعلوم البحرية وقوانينها([96]).
وظل محمد علي، بعد ذلك يوعز بشراء الكتب من الإستانة وازمير وفرنسا، ولم يكن الغرض من شراء أو جلب تلك الكتب الكثيرة ملء رفوف مكتبات المدارس، وقد كان لكل مدرسة "خصوصية مكتبة كبيرة" وإنما كان الغرض من ذلك، على ما قاله محمد علي نفسه في أمر أصدره إلى "وكيل الجهادية" هو ترجمتها" والانتفاع بها"([97]).
وفي عام 1835، اتخذت حركة الترجمة في مصر طابعا أكثر انتظاما، عندما أنشأت مدرسة الألسن، وقد اكتمل نموها بعد أربع سنوات وخرجت أول مجموعة من تلاميذها في عام 1839، توفر البارزون من خريجيها على ترجمة الكتب المختلة بإرشاد أساتذتها إشراف مديرها رفاعه رافع الطهطاوي(1801- 1873) وفي عام 1842 ألحق بهذه المدرسة "غرفة الترجمة الخاصة بالمترجمين"، وقد قسمت هذه "الغرفة" إلى أربعة أقسام: أولها لترجمة كتب الرياضيات، وثانيها لترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية، وثالثها لترجمة كتب التاريخ والجغرافيا والمنطق والفلسفة والقانون والأدب، ورابعها لترجمة الكتب التركية، وألحق بكل قسم عدد من الناسخين، حتى إذا تم إعداد الكتب المترجمة أرسلت إلى ديوان المدارس، ليشير بطبع النافع منها بعد الإطلاع عليها. وقد بقيت مدرسة الألسن، وغرفة الترجمة، تمارسان نشاطهما إلى آخر أيام محمد علي فلم يتم إلغاؤها إلا في عام 1849.
وبطبيعة الحال فإن توفير الكتب المدرسية المؤلفة أو المترجمة لتلاميذ المدارس بكميات كافية يستلزم طبعها في المطابع الآلية الحديثة، وعلى الرغم من أن الحملة الفرنسية قد استبقت المطبعة العربية التي كانت قد جلبتها معها، إلا أنها- على ما يبدو- لم تكن ذات نفع في هذا المجال. لذا فقد بادر محمد علي في عام 1815 بإيفاد (نيقولا مسابكي أفندي) إلى إيطاليا للتخصص في فن الطباعة، وبعد أن قضى نيقولا هذا أربع سنوات تعلم خلالها أصول من الطباعة وسبك الحروف وصنع قوالبها، عاد إلى مصر حيث عهد إليه محمد علي بإنشاء "مطبعة صاحب السعادة" أو "المطبعة الأميرية في بولاق" وعلى الرغم من أن إنشائها كان في عام 1820 إلا أنها لم تبدأ عملها إلا في عام 1822 وكان أول كتاب طبعته قاموس عربي- إيطالي وضعه (الأب أنطون رفاييل زاخور راهبه) أحد مترجمي محمد علي. وفي الأعوام التالية أنشئت مطابع أخرى، ألحق بعضها بعدد من المدارس "الخصوصية" وبعضها الآخر بعدد من دواوين الحكومة، منها المطبعة التي ألحقت بمدرسة الطب، وكان أول ما طبعته "كتاب القول الصريح في علم التشريح" –(1832) والمطبعة التي ألحقت بمدرسة المدفعية، وكان أول ما طبعته "الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار"، والمطبعة التي ألحقت بمدرسة الفرسان، والمطبعة التي ألحقت بـ" المهندسخانة"، وهي مطبعة حجر خاصة، أما المطابع التي ألحقت ببعض دواوين الحكومة، فهي المطبعة التي أنشأت في ( القلعة) لطبع "الجرنال الخديوي" والمطبعة التي أنشئت بقصر رأس التين بالإسكندرية، والمطبعة التي ألحقت بديوان الجهادية، والمطبعة التي ألحقت بديوان المدارس وعلى الرغم من أن الغرض الأول والأساس من إنشاء هذه المطابع كان طبع الكتب المدرسية للمدارس على مختلف مراحلها، من ناحية، وتجهيز الجيش بما يحتاجه في تدريبه من كراسات ومنشورات وتعليمات، من ناحية أخرى، إلا أنها أخرجت إلى جانب ذلك كتبا عديدة في الأدب وفروع العلم([98]).
وكان إنشاء المطابع وانتشارها سببا في نشوء الصحافة في مصر، ولقد مر بنا ذكر المطبعة الصغيرة التي أنشأها محمد علي في (القلعة) ليطبع فيها ما يمكن أن نعتبره أول جريدة مصرية سميت "الجرنال الخديوي" وكانت تنشر بعض التقارير الواردة من الأقاليم إلى ديوان محمد علي، بعد عرضها عليه وتنقيحها، باللغتين العربية والتركية، إلا أنها كانت، في الواقع، أشبه بالجريدة الداخلية منها بالجريدة العامة، لأن عدد النسخ المطبوعة منها كان لا يتعدى المائة ويقتصر توزيعها على النظار والمديرين لكي يتعرفوا من خلالها على أهم ما يقع في أنحاء القطر ويلموا بما يريده محمد علي وحكومته، وفي عام 1828 حلت محلها جريدة أخرى سميت" الوقائع المصرية" تميزت عن سابقتها بكونها أكثر عمومية وفي عام 1833 صدرت في الإسكندرية جريدة باللغة الفرنسية اسمها" مونيتير اجيسيان" كان يشرف على تحريرها غرنسي اسمه (كاميل تورل) ويبدو أن لتنامي نفوذ محمد علي وظهور بوادر تدل على طموحاتها العسكرية وتطلعاته السياسية صلة بصدورها، فقد عمل السلطان (محمود الثاني) على إصدار جريدة شبة رسمية ناطقة باللغة الفرنسية سميت "مونيتير أو تمان" استخدمها لمهاجمة محمد علي و"جرح كبريائه" وإزاء عند محمد علي إلى إصدار هذه الجريدة لكي تتولى الدفاع عنه وتفنيد الاتهامات التي تكيلها له الجريدة العثمانية غير أن المتونيتير أجيسيان لم يمتد بها العمر طويلا، إذ ما لبثت أن توقفت، بعد ثمانية أشهر، عن الصدور، فيما كانت "الوقائع المصرية" مستمرة في الصدور باعتبارها الجريدة الرسمية المعبرة عن سياسة محمد علي واتجاهات حكمة. وفي عام 1833 صدرت جريدة أخرى هي "الجريدة العسكرية" تميزت بكونها ذات طابع عسكري واقتصر انتشارها على الأوساط العسكرية. وفيما كانت "الوقائع المصرية" مستمرة في الصدور أصدر محمد علي عام 1842 أمرا دعا فيه إلى تنظيمها، وكان الجديد في أمر هذا التنظيم أن "الوقائع" لم تعد تقتصر على "نشر أخبار مصر فحسب "بل أصبح" من اللازم إضافة نبذ للحوادث الخارجية في الجريدة حتى يتقبلها الناس برغبة وشوق وتقرر أن يعهد إلى رفاعة الطهطاوي بترجمة بعض ما يرد في الصحف الأجنبية، علاوة على "بعض قطع أدبية من الكتب الأوربية، وانتخاب أخبار الملكية، وترتيب الجريدة المصرية بصفة عامة "وقد استمرت "الوقائع" بالصدور وظل رفاعة الطهطاوي يشرف عليها لحين انتهاء عهد محمد علي([99]). الجريدة التجارية الزراعية" ركزت اهتمامها كما يدل اسمها، على متابعة ونشر أخبار النشاطات التجارية والزراعية الجارية في مصر على وجه الخصوص([100]).
ولم يكن من الممكن أن تظل نتائج هذه المؤثرات محصورة ضمن حدود الأغراض العملية- بل والعسكرية التي أرادها محمد علي، بل إن آثارها ما لبثت أن اختمرت في عقول المصريين والأجانب المتمصرين وحركت فيهم الرغبة في إنشاء مؤسسات علمية مستقلة، وتهدف إلى تحقيق أغراض علمية بحتة، وقد تجلى ذلك في سعي بعض العلماء الأجانب المتمصرين، في عام 1835، إلى إنشاء جمعية أسموها في البداية "الجمعية الشرقية" اسمها وجعلوه "الجمعية المصرية" حاولوا من خلالها دراسة مظاهر حضارة الشرق وبعض جوانب الحضارة المصرية، ولاسيما اللغة والإثارة، وقد شمل نشاط تلك الجمعية أيضا إنشاء مكتبة تضم أكبر عدد من الكتب التي تتناول شؤون الشرق وخاصة ما يتعلق منها بمصر، من تاريخية وجغرافية ودينية واجتماعية، وقد استمر نشاط الجمعية حتى عام 1873([101]).
وهكذا يمكن القول، أن المشرق العربي قد شهد من خلال مصر، إشكالا ومظاهر عديدة للتلاقح الحضاري، تسربت من خلالها الإنجازات العلمية- التكنولوجية إليها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار السياسة التوسعية لمحمد علي التي حملته على أن يطوى بلاد الحجاز وسورية تحت جناحه ويحاول أن يرسخ نفوذه العسكري والسياسي فيهما، عقب صلح، الكوتاهية([102])" (1832) أمكننا أن ندرك عمق اتساع نطاق التأثير الذي خلفه مشروع محمد علي لتحديث أجهزة الدولة المصرية، وإذا كانت آثار التحديث قد ظلت محدودة في بلاد الحجاز، لاعتبارات معروفة تتعلق بقدسية المنطقة ورسوخ التقاليد المحافظة فيها، فإن الأمر كان خلاف ذلك في سورية، التي شهدت خلال تواجد الجيش المصري على أرضها نوعا من الانفتاح والازدهار الحضاري([103]).