كتاب " النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث " ، تأليف نبيل عبد الحميد عبد الجبار ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
المبحث الثالث : ردود الفصل والاستجابات
لقد تبين لنا، من خلال المبحث الأول، أن أقطار المشرق العربي كانت في القرن الثامن عشر، مهيأة على نحو ما لاحتضان جديدة تأتيها والتفاعل معها بشكل مثمر وإيجابي، كما تبين لنا، من خلال المبحث الثاني.
إن ثمة عوامل- اقتصادية ودينية وعسكرية- حتمت تنامي وإتساع التواصل الحضاري، عبر منافذ وقنوات عديدة، بين بعض الدول الأوربية من جهة، والأقطار العربية المشرقية سورية ومصر- من جهة أخرى، حتى وصل الأمر إلى حد الاحتكاك المباشر بالإنجازات العلمية والتكنولوجية الأوربية في ثلاث حالات على الأقل (وإن تفاوتت في نتائجها) الحضور العلمي الفرنسي في مصر ممثلا بالعلماء الذين رافقوا الحملة الفرنسية و (المعهد المصري) الذي أقاموه، والحضور المصري في المؤسسات التعليمية والعلمية الأوربية، ممثلا بالطلاب الذين ابتعثهم محمد علي لتحصيل العلم في إيطاليا وفرنسا وانكلترا والنمسا، وأخيرا الحضور العلمي الأميركي الذي اقترن بتواجد الإرسالية الأميركية البروتستسانتيه في سورية، ممثلا بالمدارس العالية ومن ثم بالجامعة الأميركية التي أنشأت في سوريا واستقبلت تلاميذ من أبناء البلاد، تعرفوا من خلال مناهجها الدراسية على أحدث المذاهب والنظريات العلمية الأوربية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال التالي: ترى ماذا كان رد الفعل الذي نجم عن كل حالة من حالات الاحتكاك المباشر بالإنجازات العلمية والتكنولوجية تلك لدى معاصريها، من المتعلمين والمثقفين العرب؟
فيما يتعلق بالحضور العلمي الفرنسي في مصر، يمكننا القول أن أبلغ تعبير عن رد الفعل هذا يتمثل في ما سجله لنا اثنان من الأزهريين من انطباعاتهم بشأن ما شاهدوه أثناء زياراتهم للمعهد المصري الذي أقامه العلماء الفرنسيون- وهذان الأزهريان هما: الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، والشيخ حسن العطار، ولقد أعرب الأول (الجبرتي)، في كتابه (تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
كما أشرنا في موضع آخر، عن إندهاشه وانبهاره الشديدين لما شاهده أثناء زياراته المتكررة للمعهد، المصري، الذي أنشأه العلماء الفرنسيون، وكان مما استوقفة ما احتوته المكتبة الملحقة بالمعهد من كتب باللغة العربية وبلغات أخرى تتحدث عن الإسلام وتاريخه وشخصياته، بيد أن ما خلب لبه وأدهشه أكثر كان التجارب العلمية- الكيميائية التي أجراها بعض العلماء الفرنسيين بحضوره في المختبر الملحق بالمعهد، فقال في وصفه لتلك التجارب وكأنه يصف أفاعيل ساحر متمرس يستخدم براعته في السحر في استخراج قوى خفية كامنة في بعض القماقم: ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئا في كأس ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى، فعلى الماء وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجراً أصفر. فقلبة على البرجات حجرا يابسا أخذناه بأيدينا ونظرناه... وأخذ مرة شيئا قليلا جدا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف فخرج له صوت هائل كصوت القرايانه انزعجنا منه فضحكوا منا.. ([104]).
ولكن إذا كان رد فعل الجبرتي الآتي مظاهر الثقافة الأوربية وإنجازاتها العلمية قد انحصر ضمن حدود الأعراب عن الاستغراب والانبهار شاهدوه، فإن رد فعل الشيخ حسن العطار لم يقف عند هذا الحد بل تعداه إلى التجاوب والتفاعل مع المعطيات العلمية التي قدر له أن يطلع عليها، ولقد مر بنا كيف انه كان يتردد على المرصد الفلكي حيث "كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية"، بل انه ما لبث أن صار يدعو على وجوب أن تتغير بلاده وإن" تأخذ عن أوروبا العلوم التي لا توجد هنا"، ومن ثم فقد أقبل على بعض تلك العلوم يطالع كتبا عنها ويشرحها ويعلق على حواشيها([105]).
غير أن رد فعل العطار الإيجابي هذا ودعوته المتحمسة للأخذ بعلوم أوروبا لم يقدر لها أن تحدث تأثيرا عاما، بسبب موقف علماء الأزهر المناوئ لها ولعل من أهم أسباب تلك المناوأه المعاملة الفظة التي لقيها هؤلاء من جانب رجال الحملة عندما اعترضوا على وجودها وعلى إجراءاتها. لذا تعين على العطار أن لا يجني ثمار دعوته تلك إلا بعد مضي فترة من الزمن، وبعد أن تولى محمد علي مقاليد الأمور في مصر وشروعه في اتخاذ خطواته لتحديث أجهزة الدولة، وفي سياق ذلك، دفع العطار، الذي كان ذا حظوة لدى محمد علي (حتى انه تولى مشيخه الأزهر عام 1830)، دفع بأحد تلاميذه، ومريديه: (رفاعة الطهطاوي) وهيأ له الفرصة لكي يحقق ما لم يستطع هو تحقيقه كما سنعرف لاحقا([106]).
وفيما يتعلق بالحالة الثانية من حالات احتكاك المتنورين العرب احتكاكا مباشرا بالإنجازات العلمية الأوربية، فيمكننا القول أن الانطباعات التي سجلها رفاعة الطهطاوي عن الفترة التي أمضاها في فرنسا مما شاهده خلالها تمثل تعبيرا نموذجيا لرد الفعل العام الذي تولد لدى أولئك المتنورين.