كتاب " الموقف والقرار " ، تأليف جورج سكاف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
هذا الكتاب يختصر مرحلة هامة من تاريخ لبنان.
قراءة كتاب الموقف والقرار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الموقف والقرار
بعد يومين توجهت باكراً نحو العاصمة، وقضيت أكثر من ست ساعات على الطريق أقود سيارة صغيرة، وقصدت مباشرة القصر البلدي في الزوق، حيث يزاول الأستاذ كارلوس خوري مهامه الرسمية كمدير عام لرئاسة الجمهورية، وما أن أُعلم بوصولي حتى هبّ لاستقبالي وقد أخلى غرفته من الزائرين، وبعد أن اطمأن إلى سلامة وصولي من عناء طريق طويل محفوف بالمخاطر، وأراحني بحديثه اللطيف مع فنجان قهوة، قال لي إن فخامة الرئيس ينتظر وصولي منذ أيام، فعلينا الذهاب إليه فوراً، في الكفور.. فاستمهلته حتى أذهب وأجد مكاناً أرتاح فيه وأبدل ثيابي، على الأقل، وطلبت إليه أن ينقل تحياتي إلى فخامته وأني سأكون عنده بعد يومين، أستجمع خلالهما أفكاري حول أي موضوع هام يستوجب استحضاري بهذه السرعة والإلحاح.
كان همي الأول أن أجد المكان الهادئ للاقامة عند أحد الأنسباء وشراء ثياب لائقة لمقابلة رسمية. وفي طريقي إلى بيت نسيب قريب، مرت بخاطري أفكار عديدة حول ما يمكن أن أفيد به رئيساً قبيل انتهاء ولايته، وقد مضى وقت طويل لم أره خلاله، وكنا فيما مضى نلتقي يومياً قبل الرئاسة، وانقطعتُ عنه فور توليه الرئاسة لأني ما اعتدت، في أي ظرف، أن أطلب موعداً لمقابلة أي رسمي، فلم أقم بزيارة أي رئيس في قصره الجمهوري أو الحكومي. وتذكرت أنني قلت له عندما زرته مهنئأً في بيته في إهدن بعد انتخابه إننا سنلتقي بعد ست سنوات، فاستغرب الأمر ليصر على أن نظل على عادتنا في اللقاء باستمرار. ولكن "لكل امرئٍ من دهره ما تعود" وتغيير العادات صعب، فهل سيبادرني بالقول: ها قد انقضت السنوات الست.
قبل ظهر يوم الأربعاء وصلت إلى الكفور ودخلت "القصر الجمهوري" المؤقت، في بيت عريق للصديق الدكتور لوسيان دحداح، فاستقبلني فخامة الرئيس بحرارة واشتياق صادقين، وأخذ يسألني عن أحوالي وأحوال عائلتي الصغيرة، وابني الذي لم يره وقد بلغ سنته الثالثة، وبعد تناول القهوة مع سائر الزائرين اعتذر منهم ليختلي بي في البهو المخصص لمقابلاته الرسمية واجتماعات مجلس الوزراء، وقال لي بشيء من المرارة والارتياح: مرت السنوات الست. وأخذ يبوح لي بمكنونات قلبه وشجون عهده، وهو ما زال على سجيته وعفوية ذاك الزعيم الشمالي الصلب، استطاع أن يواجه بصدره الهجمة البربرية على لبنان بصمود وثبات، فأصيب لبنان بما أصيب من دمار واجتياح، وأصيب اللبنانيون جميعاً بما نالهم، وناله شخصياً، من خسائر وتهجير، إلاّ أن لبنان، بنعمة الله وحمده، لا يزال مرفوع الرأس، فلم يستسلم إزاء أي صعوبة أو ضربة قاصمة، ولم يوقع أي وثيقة تنال من سيادته وعزته واستقلاله، ولا هو أثقل عاتقه بالديون، فما زالت الليرة اللبنانية على قوتها، ولبنان الذي كان قد تُرك لشأنه في الأيام الصعبة وكأن العالم بأجمعه قد تخلّى عنه، عاد اليوم ليلقى كل اهتمام، وأثبت للعالم أجمع أنه ليس لقمة سائغة لأحد. وتابع الرئيس حديثه بالقول إنه في أثناء ولايته لم يقدم لي أي خدمة وهو اليوم يطلب مني خدمة. فالرئيس الذي سيتولى قريباً سدة المسؤولية، صديق لي، وعلينا أن نساعده لينطلق بعهده في سهولة. وقد لا يتمكن من تأليف حكومته الجديدة بسرعة، قبل ثلاثة أشهر على الأقل، وإذا ظلت الحكومة الحالية مفككة كما هي، فسيزداد الوضع تأزماً بينما تقوم بتصريف الأعمال، لذلك أريد أن تكون الحكومة في وضع يمكنها من تأمين الاستمرارية بين العهدين، أي مكتملة وقادرة على ضبط الوضع نسبياً، وتحول دون انحداره إلى اسوأ. فتسهيلاً لقيام العهد الجديد طلب إليَّ ان أدخل الحكومة محل الوزير المستقيل فيليب تقلا، لا كوزير للخارجية التي تسلمها الرئيس شمعون، بل كوزير للمالية والدفاع والأنباء. وأكمل قائلاً إنه سيغادر الحكم بعد اسبوعفلا مجال إذن للتعاون معاً، لأن
صورة التعديل الوزاري تعاوني سيكون مع الرئيس الياس سركيس الذي هو صديقي أيضاً... فكانت ردة فعلي الفورية بالاعتذار من فخامته على عدم تولي وزارة الدفاع لأني الوحيد، ربما، في الجمهورية الذي لا يملك قطعة سلاح، ولا شأن لي مع المسلحين. فقال نعطيها للرئيس شمعون، وطلب الاتصال به لابلاغه بالتعديل فقيل له إنه خارج البيت، فقال الرئيس لا بأس يمكن أن نمون عليه فأخذ منه وزارة البريد والبرق والهاتف وأعطاه بدلاً منها وزارة الدفاع، ثم اقترحت أن تسند وزارة الأنباء إلى الزميل الأستاذ غسان تويني، لأنه أولاً زميل وأكبر مني، ولان مكتبه الخاص قريب من مقر الوزارة في الحمراء، ويستطيع الوصول إليها بسهولة. فوافق فخامته على الاقتراح وأسند إليه وزارة الأنباء ليأخذ لي منه وزارة الاقتصاد الوطني. وأمر فخامته باعداد مراسيم إعادة تشكيل الحكومة وتعيين الوزير الجديد، لتوقيعها ونشرها رسمياً من الإذاعة اللبنانية في نشرة المساء. وخرجنا إلى البهو ليستأنف فخامته استقبال زواره كالمعتاد، قبل الانتقال إلى مائدة الغداء. حيث دعاني للجلوس إلى يمينه قائلاً: تفضل معالي الوزير. وإذا بنظرات الاستغراب تشرئب في وجوه الحاضرين، وما من يجرؤ على السؤال أو الاستفسار. بعد الغداء غادرت مقر الرئاسة في الكفور مسرعاً إلى زحلة عن طريق عيون السيمان لأصل إليها قبل عتمة المساء. ولكن إذاعة النبأ في نشرة الساعة السادسة قد سبقتني إلى مسامع الناس قبل وصولي إلى البيت، فأطبقوا عليه مهنئين وأنا بعد في الطريق، واحتارت والدتي بماذا تجيبهم وهي نفسها غير مصدقة ما تسمع فتقول لهم: لربما سمعتم خطأً... ولم تتأكد من الخبر إلا عند وصولي.