You are here

قراءة كتاب أصل وفصل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أصل وفصل

أصل وفصل

كتاب " أصل وفصل " ، للمؤلفة سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 1

المقــدمـة

بقلم الدكتور نبيه القاسم

لم يعدم شعبُنا الفلسطيني الكثيرين من أبنائه البرَرَة الذين شاهدوا ما يجري، وتوقّعوا الذي سيكون، وحذّروا ونبّهوا وصرَخوا، منهم مَنْ مات مَقهورا وقد غلبه الحزنُ، مثل: ادوار سعيد وفيصل الحسيني والدكتور حيدر عبد الشّافي ومحمود درويش، ومنهم مَن لا يزال يصرخ ويصرخ ويُحذّر، وخوفي أن يمضي العمرُ ولا شيء تحقّق.

سحر خليفة واحدة من الذين شاهدوا وتوقّعوا وحذّروا ونبّهوا وصرَخوا، وتكاد تكون الوحيدة التي لم تُهادن ولم تَتراجعْ ولم تَقبلْ بكلّ التّفسيرات والتّعليلات والتّطمينات والإغراءات وظلَّت على موقفها المنتقد الرّافض تُعلنُ صرختّها العالية القوية: لا.

تعود معرفتي بسحر خليفة إلى سنوات السبعين الأولى من القرن الماضي (القرن العشرين) فقد قرأت روايتَها الأولى (لم نعُد جواري لكم) وكتبتُ عنها دراسة في مجلة. الجديد، وفي بيت سحر في رام الله تعرّفت على العديد من المبدعين والمبدعات والأصدقاء. ومن يومها لم تضعف صداقتُنا ولم ينقطع حبلُ تَواصلنا رغم بُعْد المسافات. وسَحر التي عرفتها عصبيّة سريعة الغضب ورَدّ الفعل، غير مُتهادنة في حقّها، وصلبة في موقفها والمُعلنة صرختها العالية: لا. هي سحر اليوم التي يأخذُها تاريخُ الوطن الفلسطيني الجريح لتستقْرئه من جديد وتُعيد صياغتَه الحقيقيّة ليعرف كلّ فلسطيني أين كانت جذور المأساة ومُسبّبات النكُبَّة وتَشريد الشعب وضَياع الوطن. وقد شرَعتْ بذلك في روايتيها (أصل وفصل) و (حبّي الأوّل.)

كانت كلماتُ سَحر وتساؤلاتها المثيرة لكلّ مَكامن الغضب والحزن والألم في مؤتمر الإبداع الروائي الذي عُقد في القاهرة يوم 16 شباط 2008: "نحن –الفلسطينيين- عشنا على الهامش كشعب مأزوم. وسرّ الأزمة، بل محورها، أنّا لا نعرف واقعَنا بل نحلم عنه وربّما نَشْطح، وهذا الأصح لما نفعل أو فُعلَ بنا. عشنا شعارات وعلَوْنا فوق السحب عَبْر الأوهام ثمّ هوَينا. قيل لنا إنّا قوّة، أقوى قوّة ضاربة في الشرق الأوسط قبل حزيران 1967، فماذا نتَج عن ذاك الشعار؟ قيل لنا إنّ المشكلة في الغازي وليست فينا، فغضَضنا النظرعمّا فينا وغضضنا النظر عن تفاصيل ذاك الغازي وبتنا لا نعرف مَن هو، ولا مَن نحنُ، ولا نعرف كيف نُجيب على السؤال حول أسباب هزيمتنا. يعني لا نعرف ما الواقع. يعني لا نعرف كيف نجيب، ولا حتى نعرف ما نسأل".

وتابعت سحر خليفة أمام المجتمعين من مثقفي ومُبدعي العالم العربي بألم الإنسان الفاقد كلّ شيء في حياته، والمنبوذ من كلّ العالم ومن الله: "لدينا سؤال، لديّ سؤال. أنا المحتلة لديّ سؤال. أنا المهزومَة لديّ سؤال. أنا المأزومة لديّ سؤال. وسؤالي هو: لماذا هزمْتُ؟ أين القوّة ونقاط الضّعف؟ مَن أنا، مَن هم، مَن يعرفُني؟ والسّؤال الأهم: هل أعرفُني؟"

وتُؤكّد سحر خليفة للمستمعين: "هذا ما أسعى لتحقيقه. لأني قبل أن أكون فنّانة، أنا إنسانة، بنت البيئة، والاحتلال، والهزيمة. وفني هذا لخدمة ذاتي، دفاعا عنها، ذاتي الكبرى في مجتمعي، لأني محروقة من الدّاخل ومن الخارج، ولا يُمكنني أن أغضّ النظر عن هذا الوجَع وآلامة".

وحتى يتفهّم القارئ عالمَ سحر خليفة الإبداعي عليه أن يُرافقَها في سيرة حياتها التي تركتْ أثرَها العميق في حياة سَحر وإبداعها وعلاقاتها.

تقول سحر في حوارها مع الصحفي راشد عيسى الذي التَقاها في دمشق في مؤتمر (الثقافة والمدينة) حول مدينتها نابلس وأثرها في رواياتها (1): "كتاباتي كلّها عن نابلس، مَسقط رأسي، التي أعتبرها المُختبرَ والنّموذج الحميم والصّادق للعالم العربي بأسره كمُجتمَّع، لتعدّد التناقضات فيها. ففيها من التناقضات والتوتّر والعلاقات الاجتماعيّة، ورسوخ الهويّة القوميّة العربيّة ما يُمَكّنُني منَ التقاط مَلامح المجتمع العربي، ذلك من خلال تصوير العلاقات الأسَريّة والاجتماعيّة في مدينتي نابلس".

في هذه المدينة المحافظة التقليديّة وُلدَتْ سحر في عائلة محافظة حيث نشأت في بيت حُرم منَ الصبيان فعانت مع أمّها من غربة اجتماعيّة نفسيّة، وخاصّة بعد أن تزوّج الأبُ امرأة أخرى بحثا عن إنجاب الصبّي. وتصف سحر في روايتها (مذكرات امرأة غير واقعيّة) ما عانته من تفضيل المولود الصبي عليها، وما كان من فَرض كلّ القيود والممنوعات عليها بينما أعطيَتْ كلّ الحريّة للولد الذكر. وتصف استمراريّةَ مُعاناتها كأنثى عندما أرغمت على الزواج من رجل رفضته، ونجحت في التحرّر من قَيْد الزواج منه بعد ثلاثة عشرَ عاما.

هذه المعاناة الذاتيّة جعلت شخصيّة المرأة في روايات سحر، كما يقول الدكتور حسين المناصرة في قراءة نقديّة في شؤون النصّ الأدبي قدّمها بقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود يوم الثلاثاء 7/2/1422 هجرية، تبدو على صورة "المرأة الضحيّة التي عليها أن تسعى إلى بناء المساواة بين الذكورة والأنوثة في الحقوق والواجبات داخل بنية المجتمع، متكئة على رفض المفاهيم الثلاثة: سيطرة الأب (بطريركيّة الرجل)، واعتبار الجنس أو النّوع صالحا لتَقسيم الأدوار، وهيْمنة القضيب!"

لكنّ سحر خليفة تجاوزت الذاتيّة في واقع الاحتلال الإسرائيلي للوطن وخرجت لتُواجه جُنودَ الاحتلال جنبا إلى جنب مع الرجل، ولكنها لم تتنازل عن موقفها الدّفاعي عن المرأة ضدّ موقف الرجل العدائي منها لكونها أنثى، وأعلنت في أكثر من موقف أنّ الشعبَ الذي يضطهدُ المرأةَ لن يستطيع أن ينتصرَ على عدوّه، مهما حاول أن يفعل، لأنّ نصفَه النّسوي مُغَيّب ومُكبّل بقيود كثيرة!! وأنّ تَحرّر الوطن لا يكون تاما إلا بتحرّر المرأة من قيود الرجل. وتحرّر الرجل والمرأة وثورتهما على قيود المجتمع بعاداته وتقاليده ومَفاهيَمه التي يجب أن تتغيّر وتُراعي تغيّرات المجتمعات العالمية والتطوّر الجاري في كل العالم.

وقد شدّدتُ في دراستي لرواية (مذكرات امرأة غير واقعيّة) على تميّز سحر خليفة في إبداعاتها بالتزامها بمعالجة "هموم الشعب وتَصوير حياته اليوميّة وما فيها من تعقيدات وتَشابكات خاصّة بكلّ ما يتعلّق بوضع المرأة وعَلاقتها بالرجل، وبالمقابل في مرافقة نضال الناس في مُواجهتهم لاحتلال الأرض وظلَّم الإنسان حتى باتت سحر خليفة تُؤطّر بين ثنائيّتين، هما: المرأة في مُواجهة الرجل. والإنسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال. هاتان الثنائيّتان المترافقتان والمتلازمتان في معظم روايات سحر خليفة حتى أصبح من الصّعب الفصل ما بين النضال ضدّ المحتل الغريب والنضال ضدّ ظلم الرجل والمجتمع للمرأة، والاقتناع أنّ تحرّر الوطن من رَبَقة الاحتلال لا يكون كاملا وناجحا إذا لم يُرافقه تحرّر المرأة من قيود المجتمع والرجل (2).

ويرى الدكتور حسين المناصرة في قراءته النقديّة أنّه "في ضوء تشابك الأنساق الثلاثة: الذاتي والاجتماعي والوطني، نهضَ خطابُ سحر خليفة السّردي يحمل رؤية أو منظورَ الواقعيّة النقديّة التي ترى العالم مَسكونا بالسّواد، وفي أحسن الأحوال بالرّمادي. حتى ولو أنّها كانت تُنهي بعض رواياتها بنظرة متفائلة أحيانا عن طريق تَغْييب أو تخدير التناقضات الذاتيّة والاجتماعيّة لصالح ضرورة الاستمرار في مواجهة الاحتلال من خلال الانتفاضة الشعبية التي تظهر فيها شخصيّة المرأة أكثر حكمة وفاعليّة من الرجل".

وفي جوابها عن سؤال الصحفي توفيق عابد الذي أجراه مع الكاتبة لموقع (الجزيرة نت): لماذا يُطلق عليك (كارهة الرجال؟) قالت: "لأنني طرحتُ بقوّة فكرة أنّ المرأة مُساوية للرجل، وأنّ اضطهاده التاريخي من المفروض مُراجعته، ولن تقوم قائمة هذه الأمّة ونصفها مسحوق تماما، فالمجتمع الذي لا يَفْتَقِدُ دورَ نصفه لا يُمكن أن يكون فاعلا".

سحر خليفة التي انطلقت في إبداعاتها المتميّزة لم تر في الأدب كما قالت في المُقْتَبَسِ الذي جمّعته ونَشَرتْه الكاتبة عالية كريم "حلية نُعلقها في صدر البيت، وشَكْلة على الرأس.. بل إحساس أعمق، مجبول بالتراب، بالشوارع، بهموم الناس، برصاص المحتل والمدافع، بالضحايا ودم الثوّار. وأيضا بالحبّ والتمنّي وحنين القلب، وجمال الرّوح والتّصدّي للكآبة بأجنحة الحلّم. الأدب بالنسبة لها ليس نزهة، بل جدًا وأجنحة ومرايا وعتابا دائما للذات، وسماء ماطرة وقذائف ومآذن في أرض ما عَرَفت إلا الدم" (3).

وكما قالت للكاتبة عناية جابر ونشرته في جريدة السفير اللبنانية: "الأدب هو بالضرورة أداة تعبير عن الحياة وتجاربها، ومُنطلقي المنطقي هو المكان الذي عشتُ فيه، مكاني أنا، مجتمعي أنا، ألمي أنا، جذري وتجربتي وتاريخي" (4).

وترى الكاتبة عناية جابر في سحر خليفة "روائيّة فلسطين، ومن الصعب أن نفكّر برواياتها بدون أن نفكّر في فلسطين. هذه هي وهذا هو مشروعها الروائي الذي تضيق الشّقة بينه وبين البحث الاجتماعي كما تضيق الشّقة بينه وبين النضال الفعليّ" (5).

وسحر نفسها تقول: "إنّ مشروعي الروائي هو رصدُ تأثير تجربة الاحتلال على المجتمع الفلسطيني في تحوّلاته المختلفة، وبالتالي فإنّ رواياتي هي حكاية مجتمع بأسره. أردتُ أن أصوّر الناسَ كأحياء من لحم ودم، وأن أستعيرَ لغتهم وتعبيراتهم، وأنْ أصفَ معاناتهم وإحباطاتهم، وأيضا تضحياتهم، وصدّقيني، لقد رأيتُ ما قدّمه الناسُ من تضحيات تفوقُ الوصفَ. أنتم في الخارج تسمعون وتعرفون عن تضحيات الشهداء والمُقاتلين، لكنّي أنا كباحثة، وروائيّة، ومواطنة، رأيتُ بعيْني كيف أعطى الناسَ كلّ ما لديهم: أموالهم، أبناءهم، بيوتَهم، مصدر رزقهم، أقول كلّ شيء، خصوصا في الانتفاضة الأولى التي عشتُ حذافيرها وعبّرت عنها في رواية "باب الساحة" (6).

وتقول سحر خليفة في حوارها مع راشد عيسى (7): " في (باب السّاحة) رصدتُ الانتفاضة الأولى. وفي (الميراث) رصدتُ مرحلة أوسلو. وفي ( صورة وأيقونة وعهد قديم) رصدتُ تحوّلات القدس. وفي (ربيع حار) رصدتُ الانتفاضة الثانية. بمعنى أنّ الوضع الفلسطيني العاصف، السّريع التحوّل مع الضّربات والانتكاسات، لا بدّ له من عين مُتفحّصة وكاميرا مُدقّقة لتستطيع أنّ تُوثّق وتُؤرّخ الأبعاد المأساويّة التي يمرّ بها شعب صغير ولكنه ذو عزيمة وإرادة قويّة وإيمان خارق بالحريّة ورفض الاستعمار والعبوديّة. لا بدّ لهذه الظواهر من أن تُحْفَظ في كتُب، في لغة مَكتوبة كي لا تضيع هذه التّجارب من الذاكرة الفلسطينيّة العربيّة، ولا حتى من الذاكرة الإنسانية".

كانت سحر قد عرضَتْ مواقفَها الواضحة في مختلف القضايا الحادّة والمثيرة التي تعرّضتْ لها في رواياتها بجرأة وقوّة وإثارة وتحَدّ، وقد أبرزتها في دراستي للروايات. ففي رواية (لم نعد جواري لكم) نادت بتمرّد المرأة على قَيْدها الطويل، ودَعَت المرأةَ للخروج لمواجَهة الرجل ومُطالبته بكلّ حقوقها. كما أنّها اهتمّت بتَعْرية الطبقة البرجوازيّة المتعلمة العَفنة، وتَعْرية أفكارها ونهجها وواقعها، وأظهرت استحالةَ الاعتماد عليها في تَسْيير دفّة الحياة ومُواجهة الصّعاب. فهي طبقة مُخادعة تافهة، تمضغُ الفلسفات حول الموائد، مغرورة عاجزة عن المبادرة ولا يؤمَن جانبها.

وتبنّت في رواية (الصبّار) أسلوبَ الحرب اللامُتَهادِنة مع الطرف الآخر في تَعاطفها الشديد مع أبي العزّ الذي أهدته روايتَها. ولمّا سألت الصديقةَ سحر: هل حقا تَرَيْن في أبي العزّ الطريقَ الوحيدةَ لِحلّ القضيّة؟ وهل انتهى دَوْرُ أمثال عادل الكرمي الواقعي؟ أجابت سحر وحراب الفاشست الكتائبيين والشّمعونيين وقنابل الأنظمة الرجعيّة في العالم العربي وإسرائيل تنعكس من قلب (تل الزعتر) على شفتيها: لستُ أدري! كلّ شيء في هذا العالم غريب، غريب، وللقضيّة أكثر من بُعْد واحد.

وهدفت سحر من روايتها (الميراث) إلى إعلان موقفها من مُجْمَل المواقف السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة التي يعيشها الشعبُ الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، وتَصوير وضْع المرأة الفلسطينيّة، وكيف أنّها لا تزال أسيرةَ العادات والتقاليد، وخاضعة للرجل، لم تنلْ أيّ حقّ من حقوقها رغم بطولاتها وتضحياتها سنوات الانتفاضة، ورغم التحوّلات الكبيرة التي ألمّت بالشعب الفلسطيني سنوات الاحتلال الطويلة.

وكانت دمعةُ سحر الكبيرة التي فجّرَتْها في روايتها (صورة وأيقونة وعهد قديم) حزنا وألما على ما حدث للوطن تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي، وأنّه لم يبقَ من القدس في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي غير الهياكل والكنائس وما عَداها انتهى وفي طريقه للزوال.

واهتمّت سحر خليفة في (ربيع حار) التي عرضَت فيها لزمن الانتفاضة الثانية، بفضح الواقع غير المقبول، وكشف حقائق الناس الكبار المتسربلين ثوب الطهارة والنُّبل والوطنيّة والتضحيّة والشرف، فعَرّتهم على حقيقتهم وكشَفَتْ أسرارَهم.

وأظنّ أنّ سحر خليفة، بَعْد فَوات العمر وتكرّر الخَيْبات والنكسات والنكبات، التي عايشتها وشاركت في بعضها وتابعت تفاصيلَها، قد وعَتْ ووصلت مع نفسها، كما مع كل أبناء الشعب الفلسطيني إلى المواجهة الحادّة الدّائمة مع الأسئلة الصعبة الموجعة: إلى أين تمضي بنا الطريق! وإلام المصير!؟ ولماذا نحن الفلسطينيين وحدَنا من بين شعوب الأرض كُتِبَ علينا الشّقاء الأَبديّ؟ والغربة الأبديّة والعذاب الأبديّ؟ كيف جرى الذي جرى لنا؟ ولماذا؟ ما سببُ ما أصابنا؟ وماذا فعلنا لنخرجَ من قمقم نكْبتنا؟

وكان أن اتّخذَتْ قرارَها الحاسم بالبحث عن الجذور وتَوجيه أصابع الاتهام للمسؤولين المباشرين عن النكُبَّة وضَياع الوطن وتَشْريد الشعب. فتركت الحاضر بأحداثه المكرّرة، وكلّ ما فيه من الم وحُزن ودموع وفقدان أمل وابتعاد حلم وتَلاشي وطن. وانسحبت لتستعيدَ كلّ الماضي بأحداثه، وكانت روايتها الطويلة بجزأيها: (أصل وفصل) و (حبّي الاوّل(.

وتُؤكدُ سحر في لقائها مع عناية جابر: "في (أصل وفصل) اعتمدتُ البحث والتوثيق وذكر المصادر حتى تكونَ التجربة المرصودة ذات مصداقيّة لا تسمح بالتكذيب أو مُزاودة المُزاودين. نحن ورثنا كميّة ضخمة من الأكاذيب لا بُدّ من دَحْضها حتى نتعلم من أخطائنا ومآسينا. اعتدنا تَعْليقَ خَيْباتنا على شمّاعة الاستعمار وعَلاقة الإسرائيليين. واسْتَمْرَأْنا أنْ يُقال عنّا وأنْ نقول نحن عن أنفسنا ما يفوقُ قدراتنا بمئات المرّات. وهذه للأسف خاصيّة يتمتع بها الإنسان العربيّ بشكل عام ولا تخصّ الفلسطينيين فحسب. وقد عمَدْتُ في هذه الرواية أنْ أعيدَ قراءة التاريخ بشكل روائيّ يعتمد البحثَ والتّوثيق. فمن ناحية، أردتُ أنْ أجعل تاريخَنا في متناول يد مَنْ ليس لديهم الصّبر ولا الإمّكانيّة على التّنقيب في كتب التاريخ وآثاره. ومن ناحية ثانية، أردتُ أن أقول: أنظروا كيف يُعيد التاريخُ نفسَه، ونُعيدُ نحن الأخطاءَ نفسَها، ونظلّ نحن كشعب، ندفع ثمنَ غَباء وجهل وتخلّف قياداتنا، وكذلك نظل نُصدّق مَقولاتهم وادّعاءاتهم التي سبق وسمعها آباؤنا وأجدادنا من قبل على ألسنة قادتهم الذين لا يختلفون عن قادتنا. أردتُ أن أقول: انظروا كيف أنّ التخلّفَ الاجتماعي يؤدّي إلى التخلّف السّياسي. انظروا كيف يتخبّطُ أبطالنا في عالمهم المليء بالثّغرات والعَثَرات. أردتُ قولَ كلّ ذلك من خلال رواية تعتمدُ أسلوبا سَهلا يستطيع الوصولَ إلى كلّ الناس. وكذلك تعمّدتُ التركيزَ على التّشْويق بحيث لا يتمكن القارئ من قَذْف الرواية بَعيدا وقد ملّ من أجوائها وشخوصها وحكاياتها". (8)

وأتمّت سحر رواية قصّة النكُبَّة بروايتها (حبّي الأول) بإيصالنا مع الأحداث المثيرة المؤلمة الجارحة القاتلة الكاشفة عَفَن القيادات العربية وتآمرها وخيانتها وعُهْرها وصفاقتها إلى ضياع الوطن وتَشريد الشعب عام 1948.

وما يُثيرني ويُغضبني ويطرح أمامي ألف سؤال: لماذا يُبخِسُ البعضُ من النقّاد والكُتّاب الذين تناولوا روايتي (أصل وفصل) و (حبّي الأوّل) أهميّتهما القيميّة، ويتعاملون معهما كروايتين عاديّتين، ولا يُجْهدون أنفسَهم ويتناولون التفاصيل المثيرة التي تعرّضت لها الكاتبة؟ ولماذا يقوم هؤلاء بمسخ رواية (حبّي الأوّل) وكأنّها قصّة حبّ مبرح. ولماذا تجاهلوا كلّ التفصيلات والحكايات وقصص الخيانة التي أودتْ بضياع الوطن وتشريد الشعب؟

ولماذا توقّفَ بعضُهم في حديثه كلّه حول عبد القادر الحسيني، ولا اعتراض لي على ذلك، ولكن ماذا عن حكايا وقصص خيانات الزعماء والقادة وكشف المستورعمّا جرى من أحداث أوصلتنا إلى النكُبَّة وضياع الوطن وفيما بعد إلى النكسة وضَياع كلّ الوطن ووقوعه تحت الاحتلال وتلاشيه في غَمرة الزحف الاستيطاني الشرس؟

لماذا هذا التجاهل لمضامين الروايتين؟ وكيف توصل الكاتبة رسالتها إلى القرّاء إذا قبلت وشاركت بمسخ روايتيها وتحجيَمَّهما تحت تعريف (حكاية حبّ مبرح)؟

أسئلة تُثيرني وتُغضبني وتشدّني لأصرخ عاليا: كفاكم تَشويه ومسخ وقتل كل برعم جميل نفرح به.

وتظلّ سحر خليفة، كما كانت في مسيرة إبداعها الطويلة صاحبة الرؤية الثاقبة الصحيحة، والرؤية البعيدة، والرّافضة لكل مخادعات الواقع ومغريات الحياة مُعلنة صرختها العالية القويّة المتحدية: لا.. لا.

Pages